بقلم : فيصل السعد
المولود الأول في التأليف يكون هو الأجود.ز وتبرز هذه الجودة بشكل واضح في الشعر حيث إن صاحبها يكون دقيقا في اختياره لقصائد مجموعته الأولي لنه حذر من الآخرين الذين عرفوه شاعراً ولازالوا يترقبون مجموعته الأولي، وكذلك حذر من الآخرين الذين يحملون – بالنسبة لشعره – وجهة نظر أخرى يترقبون تأكيدها من خلال ديوان قد يسقط الشاعر من الأذهان المؤيد.
وجيد هذا الحذر الذي نم الأفضل أن يستمر في المجاميع الشعرية التالي.
سعدية مفرح شاعرة اختلفت عن الآخرين إذ أنها برزت كصحيفة لها قلم نثريجدير بأن يناقش سواء معه أو ضده غذ أنها تطرح آراء لم يتداولها الآخرون. وربما كانت خلال فترتين متباعدتين تنشر قصيدة شعرية أو أخرى نثرية وكان نشرها لهذه القصائد القليلة جاء ليؤكد مصاحبتها للشعر النثري والذي يمكن تسميته بالشعر الأدونيسي.
وتفاجئنا هذه المختلفة عن الآخرين بمجموعة شعرية تحمل عنوان : “آخر الحالمين كان” وكانت من الحجم الصغير تضم 165 صفحة فيها 33 قصيدة، مع صور داخلية بريشة الفنان سامي البلشى أما الغلاف فكان بريشة نوفل الجنابي.
امتازت معظم القصائد بالقصر الذي لم يتعد عددا من الأبيات:
من كل هذي الريح
اخترت عاصفة
من كل هذا الكون
اخترت عاطفة
مازلت أهزمها
لتسكنني.
هذه اللغة الجميلة حتى لو حاولنا أن ننتزع منها الموسيقي العروضية لبقيت محافظة على نفحتها “المردانية” حيث أن الشاعر العراقي حسين مردان كان قد أصدر مجموعة أسماها، حسين مردان كان قد أصدر مجموعة أسماها، “النثر المركز” عام 1957 على ما أظن. وكانت بلا تفعيلة وهو لم يسمها شعراً إلا أنها كانت تجاور المكانة الشعرية في الذهن، وقتها لم يظهر أحد ليقلد “مردان” وبقى منفرداً حتى ظهور أدونيس الذي أكد في مقطوعاته النثرية بأن هناك بونا شاسعا بينه وبين مردان.
ورغم أن الشاعرة سعديه مفرح تحاول دائما أن تكون أكثر قربا لدونيس – كما سمعت – ورغم أنها لم تقرأ مجموعة “مردان” – النثر المركز – إلا أنني أقولها بصراحة أن سعدية أكثر قرباً للأخير منها للأول:
أن حواري مع عينيك
الساقطتين ببحر القلب
أدفا من أن يندثر بالألفاظ
أقوى من أن تحمله الأصوات
أرقى من أن يسكن في الكلمات
إن حواري مع عينيك
التائهتين كعصفورين
قد ضلا دربهما للعش الزاخر بالأفراح على من أن تسمعه أذني أو اذنك أو اذن قبيلتنا أنها تستعمل التفعيلة الشعرية في قصائدها رغم أنها تحاول بين الحين والآخر الإكثار من الأدغام أو تحرير بعض الأبيات منها إلا أن هذا الالتزام بالتفعيلة لا ينفي التقارب بين نثر “مردان” وشعرها.
فالشعر الحقيقي هو ليس الكلام المزون فقط بل الذي يعتمد على لغة الشعر الخاصة بمفرداتها، صورها، طولها، قصرها، أجل هناك لغة خاصة بالشعر لا يمكن أن نمنح أحدهم صفة شاعر في الحالة التي يكون بعيداً عنها من هنا جاء غضبنا على القصيدة النثرية التي بدا يمارسها الجميع دون الالتزام باللغة الشعرية، باستثناء قلائل من الرواد المتمكنين.
من هنا نقول أن سعدية مفرح فاجأتنا بقدرتها على احتواء اللغة الشعرية وتفعيلتها لتكتب لنا القصيدة المشوقة لأن تقرأ أكثر من مرة :
تعذبني كل التفاصيل التي
لم تغادر مرفأ الذاكرة
فحين تعج بصدري رياح التغير
تفاجئني ضرباتها في جدار التذكر
ترش التصور أثر التصور
لبيت من الشعر
في لون عيني لونه
تمتد أوتاده
وفي ثنايا الفؤاد
الخوف نم القصيدة النثرية:
ولكن .. يبقى ميل هذه الشاعرة – كما واضح في مجموعتها الأولي – إلي القصيدة النثرية التي – كما اؤمن – ستزيدها ابتعاداً عن الشعر الحقيقي.
فإذا ما اتفقت معي أن هناك لغة خاصة بالشعر، لابد أن تكون له ميزة أخرى تميزه عن النثر المركز وفقدانه لهذه الميزة يعني ضياغا لهويته.
ولا نظن أن من المعقول أن نغتال الموسيقي الشعرية التي صاحبتنا منذ ولادة حبنا العربي الأول على هذا التراب.
ثم إن السعي لانتزاع هذه الصفة من الشعر وتحويله إلي مقالات أو خواطر مقطعة بشكل شعري، لا يسمى إلا اغتيالا. وهذا الاغتيال لا يأتي إلا من عدو للغة وبالتالي للأمة ككل.
نحن نمارس هذا العمل اللاايجابي ولا ندري بإننا نشد على يد المتآمر بحرارة ونطلب منه الاستمرار في ذبح حنجرتنا الشعرية. علما بأن قراءة قطعة نثرية لا تشجع القارئ أو الجمهور على التجاوب لأنه تعود الصوت الشعري المميز.
من هنا نتمنى أن تقرأ الشاعرة سعدية فرح حديثنا هذا مرتين لتعيد إلي ذهنها واقعها وقدرتها على الإبداع في المجال الشعري الصحيح. ولا شك أن قدراتها الأدبية قادرة على العطاء والإبداع، ولا شك أن البقاء للأصل وما البثور الطافية إلا سحابة صيف سترحل سوى عن قريب أم بعيد، ، ونحن لا نريد خسارة الصوت الذي بإمكانه أن يبدع ويقول: أخرهم كانز
بانتحار الأغاني التي أيبتسها رياح التحول، أنضجتها من فوق جمر التكون، بدء التكون في قافلة الضوء الجديد، أسكنتها بطون التلون بين الصراخ والحشرجات التي كانت تصادرها أذاننا وأضلاعنا وأحلامنا وأقلامنا وتملؤها من بقايا صديد.
هذه المقاطع بل القصيدة كلها كانت من البحر الخبب “فاعلن فاعلن” وندري أن الشاعرة على دراية بالأوزان الشعرية ولكن نشعر في هذه القصيدة وكأنها تتعمد الخروج عن الالتزام بالتفعيلة. وهذا ما يخيفنا في المستقبل فنحن ننتظر من الشاعرة القصيدة الجيدة الآتية إن هي اتبعت بحور الخليل. أما اسلوبها هذا فلا يقودها إلا إلي القصيدة النثرية البعيدة عن الموسيقي الشعرية الضرورية.
المجموعة الأولي تؤكد أن شاعريتها كانت متانية جداً في طباعتها ولا شك أن هناك قصائد عديدة صالحة للنشر ولكنها اختارت هذه الـ 33 قصيدة واعتبرتها الأجود.
في مجموعتها الثانية المنتظرة نتمنى أن تكون أكثر قربا من الآخرين الذين لا يجيدون التحدث بلغة أدونيس لنها ليس لغة الشارع التي نعيشهاز والشعر الذي لا يعنى الآخرين أو يعنيهم بشكل مبطن لا يمكن أن يكون قريبا من القلب بل وحتى من الذهن:
يبدو جنون التذكر أكثر عقلا
وأكثر اكثر وعيا
فاحزن
على “الطرش” الذي ضاع
بين خطوط الدماء
التي ترسم السكك الحديدية
وبين خطوط السماء الغبية
خاتمة :
سعدية مفرح صوت له يمزته المعلن عنها في مجموعة “آخر الحالمين كان” وجيد أن تكون الولادة الأولي مكتملة النمو حيث أن الشاعرة – عبر قصائدها الصادقة – استطاعت أن تصادق أكثر من صوت اخرس، غذ أن الحناجر التي يأخرست أصواتها تعاني من هم تكاثر في صدرها فأخذت تبحث عن صوت مماثل يحبب الانفجار أو الصراخ باسم الآخرين.
ولا شك أن الشاعرة سعدية مفرح صوت من هذه الأصوات التي كتبت إلا أنها استغلت ثقافتها وقدرتها الشعرية لتمارس الكتابة بالسر قبل أن تطلع علينا بمولودها الأول الذي صرخ في صفحاته الأولي مطالبا الآخرين أن ينتبهوا وأنتم أيها الآخرون انتبهوا لهذه الشاعرة.
مجله الرسالة (الكويت) العدد 1392 الأحد 29/7/1990