افتتاحية القبس:
الرقابة على معرض الكتاب:
تواطؤ لتشويه الصورة الأنيقة
مشكلة الرقابة على كتب معرض الكتاب الدولي في الكويت، تطل برأسها القبيح من جديد وفي نفس موعدها السنوي، غير عابئة باعتراض من يعترض لا محليا ولا عربيا، فهي الاقوى محميةً بسلطة المنع، وهي الأمنع مدرعةً بدرع من تجاهل عام وتام للثقافة ومشاكلها،من قبل جميع من بيده الامر حكومةً ومجلسَ أمةٍ ، في ظل تفاقم المشكلات الأخرى تحت وخارج قبة البرلمان، وهي الأكثر شراسة مسلحة بالمقص الغبي الذي لا يفرق بين الكتب فيقص على العنوان تماما كما كان البعض يمارس القتل، في أزمنة السواد العربي الأعظم، على الهوية.
ففي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن خطة تنمية مستقبلية تنهض بقطاعات الدولة وترفع من شأن الخدمات فيها وتحشد كل الطاقات لتنفيذها في سبيل تحول الكويت مركزا ماليا يسهل من انطلاقتها الحضارية عربيا وعالميا، نجدها تخطو حثيثا نحو الانكفاء والاكتفاء الذاتيين، والانغلاق دون الاخر حتى عى صعيد الكتاب الذي هو مصدر المعرفة الأول في كل مكان وزمان.
وفي حكاية الرقابة على الكتب، والتي تجلت هذا العام بشكل مبكر في ما أعلن من عناوين لا يدخل معظمها في تابو المنع التقليدي، استقراء لأسماء مؤلفيها من كبار الكتاب والمثقفين العرب، دليل على ان ما يحدث لا يحدث بالصدفة، وان تواطؤا نفعيا ما بين جهات ومؤسسات واطراف مختلفة يتم سرا وعلنا في سبيل تشويه تلك الصورة الحضارية التي جهد الاباء المؤسسون في رسمها للكويت باعتبارها احد البلاد العربية التي تراهن على الثقافة أولا طريقا نحو المستقبل وتحقيق الاهداف الوطنية على مختلف الصعد.
وفي سياق ذلك الهاجس الذي كان ملحا وضروريا واستثنائيا في أهميته في مرحلة التأسيس الوطني أنشئت كل الصروح والمؤسسات الثقافية الرائدة في مجالها ونجحت الخطة المخلصة في تقديم تلك الصورة المشرقة للكويت لدى كل المثقفين والقراء العرب جيلا بعد جيل ممن تربوا على معطيات تلك الخطة ومنتجاتها الثقافية مثل سلاسل “عالم المعرفة” و”ابداعات عالمية” و”من المسرح العالمي”، ومجلات “العربي” و”عالم الفكر” و”الثقافة العالمية” بالاضافة الى الاصدارات النوعية الضخمة والمشاريع الفنية التشكيلية والمسرحية والتلفزيونية التي بقيت دائما علامة فارقة على ما يمكن أن يقدمه هذا الوطن الصغير لأمة “أقرأ”.
لكن هذا الوطن، ومنذ سنوات قليلة مضت، بدأ يتنازل عن صورته العربية الأكثر أناقة، والأمضى تأثيرا، وبشكل مجاني، وأحيانا مع دفع الثمن مضاعفا من جيبه الخاص، لصالح بلاد مجاورة استلمت زمان المبادرات الثقافية، وتجاوزت ما قطعناه في طريقها بأشواط عدة ناوشت فيها أطراف العالم في منتجه الشمولي من دون أن يكون لها أرثنا الثقافي ولا اساسنا الديمقراطي ولا دستورنا الذي حرص في كثير من مواده على حماية تلك الصورة الثقافية الأنيقة من عوامل التعرية الطبيعة والبشرية.
فما الذي حدث بالضبط؟
لماذا سمحنا لتلك الأطراف المتواطئة أن تنال من صورة الوطن الابهى في سبيل مصالحها الفئوية الخاصة ومداركها الضيقة واهتماماتها المحدودة ، بأنانية وصلف شديدين؟
من المستفيد الحقيقي، من تشويه الصورة، أ و ربما تعميتها، وسلبها الكثير من عناصر بهائها تدريجيا؟
لا نريد هنا ان نذكر بالنصوص الدستورية التي تكفل الحريات العامة والشخصية بالاضافة الى حريات البحث العلمي وحريات النشر والطباعة، ولا نريد ان نشير الى ان الرقابة اصبحت تلعب في الوقت الضائع ، من دون اي فرص حقيقية لتحقيق هدف حقيقي، في عصر انتشار المعلوماتية عبر الفضاء المفتوح، وامكانيات الانترنت المتضاعفة دقيقة بعد دقيقة. هذه معلومات قديمة يعرفها أهل الرقابة جيدا بل واكثر من غيرهم، وربما صاروا يستمرئون الالتفاف بين طياتها للاعتذار عما تسببه رقابتهم من ازعاجات للقراء، فيقولون ان كل ما يمنعونه متوفر على بعد نقرة واحدة على لوحة المفاتيح، لكنهم ينسون ، وربما لا يعرفون ، ان المشكلة ليست في الحصول على المعلومة أو المتعة القرائية بقدر ما هي محاولة لصيانة حق دستوري واضح للمواطن، واسترجاع صورة الوطن القديمة على هذا الصعيد، وإعادة ترميمها قدر المستطاع بأدوات الثقافة ومعطياتها . ثم ما الهدف من الاستمرار في إقامة معرض الكتاب سنويا وصرف الأموال الطائلة على تنظيمه لم يحقق الهدف منه ؟ الا اذا كانوا يعتقدون ان معرض الكتاب مجرد بقالة لبيع الكتب في سياق استهلاكي ترويجي تحت جناح ثقافة السوق المفتوح، وليس حالة معرفية شاملة ينبغي توفيرها بكل حرية تحت جناح ثقافة التفكير الحر والاختيار الحر لكل ممواطن ومقيم على ارض هذا الوطن؟
ان الكويت، التي لم يعد أمامها الكثير مما تراهن عليه في السباق العالمي الحضاري،عليها ان تعيد التفكير بالرهان الثقافي الذي جربت التعامل معه بنجاح دائما ، وحتى سنوات قليلة مضت وكان أحد المتكآت التي اتكأت عليها في وقت المحن والشدائد بكل أمان .. لكن هذا الأمان بدأ يتسرب من بين تلك الشقوق الكثيرة التي تسبب بها مقص الرقيب الغبي.
} القـبس{
(القبس / 25 سبتمبر 2010)