رحم الله الزميل الكبير، الخلوق، المبتسم، الهادئ، المهني، دمث الأخلاق، السهل الممتنع، الخبير بحرفته، العالي بقلمه، الشغوف بالصحافة، الوفيّ لها، المتابع أخبارها، المنشغل بتحوّلاتها وتطوراتها، المتنقل بين عناوينها وأروقتها الحقيقية والافتراضية، القلق على مستقبلها، الممارس لها حتى حين عزّت عليه المساحة المعتادة منها، الصحافي الحر جمال خاشقجي. ورحمنا جميعا أحياءً وأمواتا، صحافيين وقرّاء، في هذا الوجود الصعب والمحفوف بأسئلة الموت والحياة بلا إجاباتٍ كافية، فما بالك إن كان الموت قتلا مروّعا في ردهة الطمأنينة المفترضة على قطعةٍ بعيدةٍ من أرض وطنه في الغربة؟
واضحٌ أن خاشقجي استشهد في سبيل قلمه الحر، ذهابا إلى إيمانه العميق بأهمية الحرية للإنسان عموما، وللصحافي خصوصا. لكنه، مع هذا، لم يمت في أرض معركة حقيقية، وهو الذي بدأ حياته الصحافية مراسلا صحافيا ميدانيا من أراضي الحروب البعيدة في أفغانستان وغيرها، لكنه مات في لحظةٍ فارقةٍ من لحظات الخذلان الحقيقي، بينما كان يستعد لبدء حياةٍ زوجيةٍ جديدةٍ، اختارها ليمضى فيها بقية حياته، كما يبدو، بعيدا عن وطنه الذي أحبه ومدينته المباركة التي عشقها، وصرح مرّاتٍ برغبته في أن يُدفن في بقيعها الطاهر.. ولم يكن ليعلم أنه سيموت، وسيُختلف على موته عدة أيام، وأن جثمانه سيختفي أسابيع (حتى الآن)، وأن قبره المشتهى في بقيع مدينته النبوية المنوّرة سيبقى مفتوحا بانتظاره، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
أما الصحافة، مهنتُه الأثيرة، وعشقُه الأبدي، وخياره العملي المبكّر، فلا بد أنها ستفتقده، وستفتقد بذلك قلما رشيقا كان يمضي بحبره إلى أعقد القضايا بسلاسةٍ غريبةٍ جعلت كثيرين من قرّائه يحتارون في تصنيفه، ولعل هذا ما أراده تماما، فقد كان ضد التصنيف فكريا وسياسيا، لكن انحيازه لمبادئه الأخلاقية كان يظهر جليا في اللحظات الحرجة والمواقف الملتبسة.. ولم يكن ليخفي شيئا من عواطفه في ما يكتبه، ويتحدّث عنه. كانت ابتسامته فضّاحة وسخريته لاذعةً، لكن أخلاقه العالية، والتي اتفق عليها أعداؤه وأصدقاؤه، قبل رحيله وبعده، كافيةٌ لأن ترسم ملامحه الصحافية نموذجا نادرا للاحترام والوقار، في زمن لا يأبه بهذا.
وإذا كان حظ جمال خاشقجي السيئ قد أورده مهاوي الردى، بشكل مأساوي، لم نطلع على كل تفاصيله بعد، وإنْ كان ما رشح منها يكفي لأن يجعلنا نصفها بذلك، فإن عمله، خلال السنة الأخيرة كاتبا في صحيفةٍ عالميةٍ عريقةٍ هي واشنطن بوست، لا بد وأن يُنظر إليه على أنه أفضل ما حدث له في حياته العملية.
فلقد قدّمت هذه الصحيفة، إثر قتل كاتبها العربي الوحيد، درسا صحافيا جديدا من دروسها الكبيرة في سبيل صحافة حرّةٍ، وقادرةٍ على أن تكون جزءا من الكشف الوجودي والقيم الأخلاقية للبشر.
عندما شاهدت، قبل شهور، فيلم “ذا بوست”، وهو الاسم المصغر لتلك الصحيفة التي أطاحت الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، مطلع سبعينيات القرن الماضي، تمثلتُني وأنا أعمل في مكاتب تلك الصحيفة العالمية العريقة، وتخيلتها النموذج المفضل لكل صحافي شغوف بمهنته. وعندما بدأ خاشقجي الكتابة الأسبوعية فيها غبطه كثيرون على المساحة التي احتلها قلمه الرشيق في إحدى أهم صحف العالم، إن لم تكن أهمها. ولم يكن أحدٌ ليتخيل وقتها أنه سيكون بطل الصحيفة، وتكون هي بطلته إثر الجريمة المروّعة التي أودت بحياته في قنصلية بلاده في إسطنبول، لكن هذا ما حدث، حيث أعادت تحقيقات “واشنطن بوست” الاستقصائية عن الجريمة وتداعياتها، بالإضافة الى ما نشرته من مقالاتٍ وأخبار غير مسبوقة عنها، الاهتمام ليس بالصحيفة نفسها وحسب، بل بالصحافة الورقية برمتها، في وقتٍ كانت فيه تلك الصحافة تعاني من شبح الموات النهائي.
رحل جمال خاشقجي، ليكون رحيله علامة جديدة على طريق عشق مهنة الصحافة، إذ ساهم، رحمه الله، بموته في إنعاش مهنته. وأشار، وهو غائب غيابه النهائي، إلى أهمية حضورها في حياة البشر دائما.
(1 نوفمبر 2018)