“اخر الحالمين كان”…. ديوان سعدية مفرح
شاعرة تحلق في ذورة الحلم بجناحي التفاصيل الإنسانية
بقلم : رفعت سلام
فاجأتني مرتين، المرة الأولى حين وصلني ديوانها»آخر الحالمين كان«، بعد صوره بأيام، ولم نكن قد التقينا من قبل، سوى على الورق. وكانت مبادرتها هذه لفتة جميلة مفاجئة، اخرجتني من شرك التفاصيل اليومية الي حالة مختلطة من الفرح بهذا اللقاء غير المنتظر، والحزن عل ىتلك المسافات الشاسعة القريبة الفاصلة بيننا، وترقب لحظة ما تسوقها صدفة عابرة تلغي المسافات. كتبت لي في اهداءها عن »الحضور البهي«. ولم تكن تدري – وادري- أن الحضور سيتحول، بعد ايام إلى غياب.
وفي المرة الثانية: فاجأتني بالغياب، كتب لها كلمة قصيرة وضعتها في مظروف، وانتظرت الصباح، فجاء البرابرة، وكأن الغياب.
لم يكن لي أن اسميها عصفورة، فيصطادها البرابرة.
ولم يكن لي أن اسميها شجرة، فيقطعها البرابرة.
ولم لي أن اسميها، أو اصفها، حتي لا أدل عليها البرابرة. ولكن لي أن استثينها من الاسماء والصفات والتشبيهات، لتصبح مطلقة في مواجهة العابيرن، كلية في مواجهة الغبار المنذور للغروب.
فهل لأحد أن يتذكر البرابرة الذي هموا»بوشكين«، أو البرابرة الذي دهموا »لوركا« أو »نيرودا«، أو أسم أحد من البرابرة الذين دهموا »ناجي العلي«?
لا بأس- اذن- أن ينسى البرابرة المصير. ولكن لنا أن نكتب: أن البرابرة يدهمون شاعرة في ذروة الحلم، بالدبابات والطيران القاذف والاعتراضي وقوات الصاعقة المدججة والصواريخ. لنا أن نقول: أن الشاعرة لنا، وحلمها لنا، وللبرابرة همجيتهم واسلحتهم الصدئة وميراث التتار. ذلك خط فاصل، إلى أن تستكمل الشاعرة حلمها، وتأتي الينا بفاكهتها وبوردها وبروقها القرحية، ورغم أن البرابرة قد ردوا على اعقابهم فأن ما يعنينا هو الشاعرة.
فمن اين يبدأ حلم الشاعرة…?
هو لا يبدأ، فلكل بداية نهاية، ولكنه ينفجر ابتداء من كل الجهات إلى كل الجهات، دون انتهاء.
حلم شامل بالتحقق الإنساني للعالم، ونفي محرماته، وهدم حدوده وقواعدة المكبلة، التي ترفع القاعدة فوق الانسان، فتهدده، ولا يبقى سوى مسخ إنساني مشوه.
حلم يشبه الصرخة، وصرخة متوجة بالشهوات المطاردة.
هو الحلم بالكلام الشهي الذي حرمته القبلية، بلغة اخرى، يصبح فيها الحب هو الفاعل والقلب المفعول، بانتقاء المسافة الفاصلة مع الآخر، بالصدق الجارح الفاجع الذي يكسر سطح الزيف المصقول، بالحرية في ممارسة الطق الذاتي ورغبات الحياة الجامحة، برقصة العصفور مع الفه، فرحا، لا من الم الذبح.
انه الحلم بخلع كل الاثواب المستعارة المفروضة، والمقحمة على الذات، واكتشاف الجسد لوبه الخاص الذي لا يرادف السجن، بل الحرية، ويطلق الطاقات المكبوتة إلى افق بلا تخوم.
هو نفي للخوف الذي »يلثم كل الوجوه«، والانصياع لقوافل الصمت، واغتيال كلمات الحب، وكذب الطاعة، والانقسام على الذات بين عطور التحضر ورائحة البدأوة، والانتماء الداخلي إلى النفط، واجهاض كل الكلام المباح وغير المباح. نفى لوأو العطف التي تفصل بين »رجل وامرأة«، والخوف من الرغبات الدفينة، والانزلاق إلى بريق النسيان، والارصفة المصبوغة بدماء الضحايا، والرغبة في الانتحار.
وجوه متعددة لحلم واحد لا ينتهي: وجه رفض العالم الخارجي، المرادف للزيف، وفرض الطاعة العمياء، وقواعد التحريم الاجتماعية والاخلاقية، والقهر الإنساني. ثمة وجه البديل النفي، المرادف للحرية الشاملة، والمفضي إلى اكتمال الانسأن وتوافقه مع ذاته، ومع الآخر في تكامل حر اختياري. وثمة وجه رفض الانقسام الداخلي ل¯ »الانا« بين طاعة العالم الخارجي التي تجذرت -عمقا- داخل الذات، وبين شهوة الخروج عليه، باعتباره الآفق الوحيد المفتوح، انسانيا.
ثلاثة وجوه للحلم، تطوي بينها الكثير الكثير من التشوفات المنذورة للخيبة، والوعود المحكومة بالاحباط، والانتظار الغامض لما فد يجئ أو لا يجئ والايماءات التي تشارف اليأس، والكلمات المحذوفة البيضاء، والآمال التي تشتعل لتنطفيء، والتوهجات الموقوتة باللحظة العابرة، والافراح الطارئة.
عالم يشتبك فيه الخارج مع الداخل اشتباكا آليما، فظا، طرفاه »الأنا« التي لا تملك سوى الحلم بالتغيير وارادة الرفض، والمؤسسة المجتمعية بما تملك من ترسانات اخلاقية واجتماعية وقانونية.
ولا يتحقق الاشتباك داخل القصيدة، إلا في حالات استثنائية، ذات طبيعة ايمائية، فالقصيدة ساحة مفتوحة لآثا الاشتباك ونتائجه ومخلفاته، لها أن تتبدى -أحيانا¯ واضحة القسمات والصلات، واغلب الاحيأن تتبدى مقطوعة الصلة بالاشتباك. لدى القراءة العابرة السطحية.
فصور العزلة المريرة، والوحدة الراسخة، وفتقاد المشاركة الي حد التوحد بالآخر، والرغبة الطارئة في الانتحار، والواء المهيمن، والتململ الاليم.. هي بعض نتذج اختصام العالم، ورفض الانصياع له، وأن اتخدت طابعا وجوديا. هي شارة على رفض التكيف مع الراهن، والاكتفاء بما يطرحه، دون فقدأن كامل للامل.
فلاتناقض كامن حتي في تكوين القصيدة والصورة الشعرية، بين بنياتها ومستوياتها المختلفة. ليس تناقض الاشتات العشوائية المبعثرة، بقدر ما هو التناقض المبنى على المفارقة، والمفجر للشعري، هي شعري وضع وسياق يصدر خلاله الشعري من المألوف، العادي ، أحيانا، وأحيانا مما يتجاوز السطح الساكن، في العمق غير المرئي. تتحقق الحالة الأولى في بنية رصدية، تتوالى خلالها التفاصيل الواقعية المنتقاة، لينفجر الشعر- لا من الرصد ولا التفاصيل – بل من »منطق« الرصد والعلاقات الكامنة بين التفاصيل النثرية. فالشعري – في هذه الحالة – يقوم على الكلى، ولا يمتلك الجزئي – الصورة الشعرية المفردة، أو الايقاع… الخ- اي تميز خاص، الا كلبنة داخل بناء أشمل.
وتتحقق الحالة الثانية في بنية مجازية، ابتداء من الجملة الأولى، لينفجر الشعر من جميع المنابع، من الجزئي إلى الكلي، يمتلك خلالها الجزئي شعريته المكتملة في تضافر مع الشعرية الكلية.
شعرية تمتلك ايقاعها الخاص، بلا اذعأن للمسبق المتعالي على التجربة. فللتفعيلة أن تجئ أو لا تجئ. ولها أن تمتزج بالنثري أو تتمايز عنه وللايقاع أن يتشكل – في التجربة – حيا، ساخنا، مشظى وناعما في آن.
قصيدة لها طزاجتها وسخونتها، وتميزها بلا احالات أو تماس. وصوت يكتشف نبرته، فنفاجأ به مفاجاة الفرح بالعثور على بعض ذاته.
جريدة البيان ـ الامارات – 28مايو 1993