عشنا، نحن عرب الخليج والجزيرة العربية، طويلاً تحت وطأة الشعور بالهامشية في الثقافة العربية المعاصرة، على مدى القرن الأخير تقريباً. والغريب أننا قبلنا الانصياع لذلك الشعور، وعزّزناه بوسائل وصور كثيرة. ثم جاء النفط ليكرّس الفكرة، بشكل أشمل وأعم، بعد أن اقتنع الجميع أن عرب الجزيرة العربية إنما هم هبة النفط وحده. وبالتالي، أي نشاط ينتج عن هؤلاء العرب خارج إطار النفط هو هامشي وغير حقيقي ومزيف، وفي أحسن الأحوال، نشاط ناقص لا يكتمل إلا بمباركة الأشقاء العرب من خارج الجزيرة العربية، حتى لو كان مما يتعلق بخصوصية تلك الجزيرة الجغرافية والثقافية والتاريخية، كاللغة العربية وآدابها وشعرها ونثرها، مثلاً، متغاضين عن أصلها ومهواها حضارياً.
ومن المؤسف أن كثيرين من أبناء الخليج والجزيرة لازمهم هذا الشعور الذي زرعه أشقاؤهم الآخرون في أنفسهم، وما زالوا يعيشون تحت وطأة أنهم هبة النفط وحده، وليس لهم الحق في مد الأعناق ورفع الرؤوس خارج برميل النفط، ما دام هو سبب ما هم فيه من وفرة وتمدّن، فهم منه وإليه.. فقط. وحتى في الاستثناءات القليلة للخروج من البرميل، نلاحظ أنه خروج مشروط باشتراطاتٍ لا تطبق على بقية الحالات العربية، فالأدب الشعبي في الجزيرة العربية، مثلاً، يبقى محصوراً في دائرته الضيقة بكل عمقه الحضاري وصلته الحقيقية القوية بتاريخ الأمة، مقارنة بالنظرة المنفتحة عموماً للأدب الشعبي في بلدان عربية غير خليجية.
وانتشرت تجليات تلك النظرة الناقصة لنا بشكل كبير في السنوات الأخيرة، حتى بعد أن انتشرت وسائل إعلامنا وطغت على غيرها، بل ان تلك الوسائل الإعلامية صارت الأداة الأمثل للانتقاص من أهلها أحياناً، والأمثلة كثيرة، منها أن شاعراً سعودياً كبيراً رحل قبل أيام، يعد أحد أهم رواة الموروث الشعبي لصحراء الجزيرة العربية ومن أشهرهم، هو رضا طارف الشمري، رحمه الله. وكالعادة “فوجئت” بكثيرين حولي يستكثرون أن أكتب عنه بصفته رمزاً حقيقياً من رموز الثقافة العربية، فما دام شاعراً “شعبيا”، يكتب قصائدة بلهجته البدوية الخالصة، لا يحق له أن ينتظم في صفوف الأدباء والشعراء والمثقفين العرب، وعلينا أن نحصره في الزاوية الضيقة التي تسمى بالشعر الشعبي، والتي، للأسف، ساهم في إنتاجها بتلك المواصفات التصنيفية الضيقية شعراء شعبيون خليجيون، لم ينتبهوا إلى أنهم كانوا بذلك يكرّسون النظرة الهامشية للأدب الشعبي في الجزيرة العربية، وبالتالي النظرة إليهم هم بأنفسهم.
ومن المفارقات أن هؤلاء وغيرهم لا يطبقون ذلك التصنيف الأدبي على شعراء شعبيين عرب من خارج الجزيرة العربية، فشعراء مثل عبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وبيرم التونسي وفؤاد حداد، وغيرهم، لا ينفصلون عن المشهد الثقافي العربي العام في بلدانهم وفي بلداننا أيضا، فالتصنيف مقصور علينا، عرب الجزيرة العربية وحسب، ومن دون أي أسباب حقيقية تبرّره. ومع هذا يستمر، لأنه لا يجد من بيننا من يحاربه وينفيه، إلا قلة قليلة تضطلع بالمهمة على استحياء، وكأنها تخجل من دورها على هذا الصعيد، على الرغم من أنني أراه أحد أهم الأدوار الحقيقية للمثقف الحقيقي في الخليج والجزيرة العربية. وبالتالي، علينا أن نستغل كل الفرص المتاحة، ونساهم في إيجاد غير المتاح منها، على سبيل إبراز الوجه الثقافي الحقيقي لهذه المنطقة العربية. وأول الفرص وأهمها إلقاء الضوء على كل الأسماء التي غيّبت عن المشهد الثقافي العربي العام، وحصرت في إطار محلي ضيق، ومنها اسم المثقف العربي الكبير، رضا طارف الشمري، رحمه الله.. على سن ورمح.
(29 أكتوبر 2015)