تابعت الحراك الجزائري الراهن منذ بداياته على شاشات التلفزيون المختلفة. وتعاطفت، كعادتي، مع مطالب الشعب المرفوعة في لافتات الشوارع، وكلماته الموزّعة في هتافات وتصريحات وأناشيد. عودة إلى خضم الربيع العربي في بداياته، وربما استعادة صورة مستحدثة من صوره المكرّرة. وعندما آلت الأمور إلى إعلان الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، استجابته للمطالب الشعبية بعدم الترشح للمرة الخامسة، التبست عليّ الصورة، وتذكّرت، على الفور، مع فروق المواصفات والأقدار التي سيّرت حياتيهما، صورة الجنرال في متاهته، كما رسمها غابرييل غارسيا ماركيز في رواية بهذا العنوان.
شعرت، وأنا أتابع الخبر مرفقاً بصورة بائسة للرئيس المريض، بقليلٍ من التعاطف معه. من الواضح أنه لم يكن يعي ما يفعله الآخرون باسمه، وتحت سلطته المهيمنة على الجزائر والجزائريين طوال عقدين. بين مرض الجسد ومرض الكرسي كانت نهاية الرجل الذي يشير كثيرون إليه، ويتعاملون معه بصفته الرجل الميت! فجأةً، أصبحت نظراته، بنظري، بائسةً، وصوره مثيرة للشفقة. وبدا لي كرسي المرض المتحرّك الذي لم يكن ليفارقه في المرّات القليلة التي ظهر بها في السنوات الأخيرة مرادفاً لمعنى كرسي الحكم في تلك الحالة الماثلة أمامنا، لتكون شاهدةً على نموذجٍ من نماذج الحكم في بلدان العالم الثالث. صحيحٌ أن الرجل لا يستطيع الاستغناء عن الكرسي المتحرّك، ولكنه أيضاً لا يستطيع الاستغناء عن كرسي الحكم، وهو، على أية حال، ما زال يحكم، عبر قراراته التي تصدر ممهورة بتوقيعه من خلال المحيطين به، والذين عجزوا، كما يبدو، عن توفير بديلٍ جاهز، لرجلٍ حكم البلاد عقدين قضى نصفهما مريضاً وعاجزاً.
في روايته “الجنرال في متاهته”، صوّر ماركيز محنة رئيس تاريخي في مرويات أميركا اللاتينية وتاريخها الحديث، إذ يُمضي نهاياته في الحكم، وفي الحياة، بلحظاتٍ استرجاعيةٍ يحتار معها القارئ إن كان سيتعاطف معه من خلالها، أو سيضاعف نقمته على استبداده الذي أودى بالبلاد إلى مهاوي الفاقة والعوز والضعف أخيراً. هل هذا ما حدث في الجزائر أيضاً؟ لا مكان للتعاطف الحقيقي، إذاً، خارج إطار الصورة التي تبدو فيها عينا الرئيس المرهق بائستين وحزينتين، وربما دامعتين أيضاً، لكنها سيكولوجيا الشعور بلحظات المهزومين الأخيرة، بغض النظر عن نوع الهزيمة، والتي لا أكاد أستطيع التخلص منها، هي التي تحوّل تلك اللحظات الفارقة إلى لحظاتٍ ملتبسة جداً بالنسبة لي. حدث ويحدث هذا في كل لحظات الهزيمة الشخصية أو العامة التي كنت طرفاً فيها، أو جزءاً منها، أو شاهدة عليها، فلا أكاد أتذكّر أي دقيقة لحظة انتصار عشتها من دون أن ينتابني ذلك الشعور الخفي بالتعاطف مع الخصم أو الند. يبدأ بتيارٍ رفيع جداً يتسلل لي من كل أطرافي.. يمشي حتى يتركز في قلبي، فأشعر به، وهو يسحب ببطء شديد قليلاً من فرح الانتصار، ويحل محله شيء من الخواء الغريب الذي سرعان ما يتحول إلى شعور ملتبس بالتعاطف المشوب بتأنيب الضمير على لا شيء.
حدث هذا دائماً معي، في كل انتصاراتي الشخصية والعامة أيضاً، وفي كل القضايا التي أنحاز إليها حتى نهاياتها المنتظرة. حدث في ثورات الربيع العربي كلها، في مشهد حسني مبارك مخاطباً شعبه الثائر خطابه الأخير، وفي مشهد معمر القذافي مسحولاً مدمّى في شوارع سرت، وفي علي عبد الله صالح اليمن محترقاً بنيران طغيانه وفساده… لا أستطيع وصفه بدقة، ولا تسميته، ولا حتى الاطمئنان إليه، لكنه حدث ويحدث، ربما ليدلنا على كثير من نقائصنا، كبشرٍ غير صالحين دائماً لأن نكون عادلين في مشاعرنا تجاه الآخرين.
في روايته “الجنرال في متاهته”، صوّر ماركيز محنة رئيس تاريخي في مرويات أميركا اللاتينية وتاريخها الحديث، إذ يُمضي نهاياته في الحكم، وفي الحياة، بلحظاتٍ استرجاعيةٍ يحتار معها القارئ إن كان سيتعاطف معه من خلالها، أو سيضاعف نقمته على استبداده الذي أودى بالبلاد إلى مهاوي الفاقة والعوز والضعف أخيراً. هل هذا ما حدث في الجزائر أيضاً؟ لا مكان للتعاطف الحقيقي، إذاً، خارج إطار الصورة التي تبدو فيها عينا الرئيس المرهق بائستين وحزينتين، وربما دامعتين أيضاً، لكنها سيكولوجيا الشعور بلحظات المهزومين الأخيرة، بغض النظر عن نوع الهزيمة، والتي لا أكاد أستطيع التخلص منها، هي التي تحوّل تلك اللحظات الفارقة إلى لحظاتٍ ملتبسة جداً بالنسبة لي. حدث ويحدث هذا في كل لحظات الهزيمة الشخصية أو العامة التي كنت طرفاً فيها، أو جزءاً منها، أو شاهدة عليها، فلا أكاد أتذكّر أي دقيقة لحظة انتصار عشتها من دون أن ينتابني ذلك الشعور الخفي بالتعاطف مع الخصم أو الند. يبدأ بتيارٍ رفيع جداً يتسلل لي من كل أطرافي.. يمشي حتى يتركز في قلبي، فأشعر به، وهو يسحب ببطء شديد قليلاً من فرح الانتصار، ويحل محله شيء من الخواء الغريب الذي سرعان ما يتحول إلى شعور ملتبس بالتعاطف المشوب بتأنيب الضمير على لا شيء.
حدث هذا دائماً معي، في كل انتصاراتي الشخصية والعامة أيضاً، وفي كل القضايا التي أنحاز إليها حتى نهاياتها المنتظرة. حدث في ثورات الربيع العربي كلها، في مشهد حسني مبارك مخاطباً شعبه الثائر خطابه الأخير، وفي مشهد معمر القذافي مسحولاً مدمّى في شوارع سرت، وفي علي عبد الله صالح اليمن محترقاً بنيران طغيانه وفساده… لا أستطيع وصفه بدقة، ولا تسميته، ولا حتى الاطمئنان إليه، لكنه حدث ويحدث، ربما ليدلنا على كثير من نقائصنا، كبشرٍ غير صالحين دائماً لأن نكون عادلين في مشاعرنا تجاه الآخرين.
(العربي الجديد / 14 مارس 2019)