الحديث عن “النسوية الخليجية” جسرٌ علينا أن نعبره عبور الكرام، من دون الرجوع إلى التاريخ وعرض المدارس الفكرية وتفكيك المصطلحات، ولا سيما أننا نعرف الأوضاع في دول الخليج، وما بينها من تشابهاتٍ واختلافات..
“النسوية الخليجية” عـنوان يحيل إلى مزيد من الالتباس، في تناولنا قضية المرأة باعتبارها من أخطر قضايانا الراهنة، والتي ترتبط بها، وتتفرع عنها، كثير من القضايا الفرعية.
والمرأة التي تحولت إلى قضية، منذ بدأ الوعي بأهمية مناقشتها، ظلت دائما، وبمختلف تجلياتها، مفهوما غامـضا، ليس لعدم وضوح ما يشير إليه المفهوم وحسب، ولكن أيضا لتعمّد كثيرين ممن تناولوا هذا المفهوم، أو تماسّوا معه، أن يظل غامضا، حتى يظل متسعا لرؤى كثيرة مختلفة، بل ومتناقضة أحيانا. والأمثلة كثيرة، ويمكن الإشارة هنا إلى ما يروج منها في فضاء الأدب والكتابات الإبداعية بشكل عام، فالإبداع النسوي، والكتابة النسوية، والنقد النسوي، بالإضافة إلى مفردات أخرى قريبة منها، مثل أدب المرأة أو كتابات البنات، أو أدب الأظافر الطويلة… تتداخل في كتابات عامة أخرى كثيرة، وتبدو، في صورها المتداخلة أو المستقلة على حد سواء، تعبيرا جليا عن شكل (وحجم) التداخل الذي تتعرّض له القضية المركزية وتفرّعاتها الثقافية الكثيرة.
أما إذا قدّر لنا أن نتماسّ مع هذا كله في إطاره العربي، فلنا أن ننظر إلى هذا التداخل ذي الطبيعة الإشكالية بحجم مضاعف، بالإضافة إلى ما يحيل إليه هذا الإطار العربي للقضية برمتها من أسئلةٍ فرعيةٍ أخرى، تتعلق بصورة المرأة كائنا استفزازيا في المجتمعات العربية الراهنة، والخليجية منها بالذات، وهي الصورة التي انتشرت مجتمعيا وإعلاميا، بعد خروج المرأة في هذا الحيز الجغرافي إلى التعليم بكل مستوياته، ثم إلى العمل، ثم إلى مراكز اتخاذ القرار والمشاركات السياسية.
ولكن، بغض النظر عن طبيعة هذه الاختلافات والتداخلات، وقريبا من فهمنا لها في الوقت نفسه، نستطيع الإشارة إلى أن كل ما يتعلق بالحركة النسوية الحديثة، وبالمرأة كقضية، وبالمفهوم ككل، تخطّى الآن، بل ومنذ عقود عديدة، مرحلة الاعتراف به، وأخذ يتوغل في مختلف مجالات اهتمام المرأة والرجل على حد سواء، رفضا وقبولا، فالحركة تشق طريقها باستمرار نحو مزيد من الإنجازات على صعيد تحققها النهائي، بل إنها أصبحت متمركزةً في قلب فكرة الحداثة، حتى أنها، كما أرى، شكلت الجسر الثقافي شبه الوحيد للمرأة للمشاركة في “معركة”، وأصر على كلمة معركة، ما بعد الحداثة، بعدما ماتت أو تلاشت المذاهب الكبرى التي ادّعت اهتماما بقضايا المرأة في إطار تفسير شمولي مجّد النزعات الوصفية والعلمية والعقلانية، من دون أن تشعر المرأة بأن التمييز ضدها قد توقف فعلا. ولكننا لاحظنا أن النسوية، بدورها، تتحفظ أيضا على شمولية الخطاب، وترفض التحديدات المسبقة، وتشارك حركة ما بعد الحداثة في هذا التوجه. ويمكن رصد عديد الأمثلة المباشرة وغير المباشرة على ذلك.
ولا يضير النسوية كحركة أنها نزعة ثقافية تناصر المرأة، كما لا يضيرها أن تشارك معها، لأن نهاية عصر الحداثة أظهرت أن المساواة الثقافية هي منطلق كل مساواة، بعدما لمست المرأة أن المساواة القانونية التي حصلت عليها أحيانا، وما زالت تحارب للحصول عليها أحيانا أخرى، لم تُلغ التمييز ضدها، كما أن التعليم والاستقلال الاقتصادي والخروج من المنزل، وهي إنجازاتٌ أو حقوق مما كانت المرأة تظن أن الحصول عليها سيساهم في رفع الغبن الاجتماعي العام عنها لم تفعل سوى القليل على هذا الصعيد، بل الغريب أن هذه الحقوق في بعض المجتمعات صارت نقمةً، بدل أن تكون نعمة، لأنها لفتت أنظار المتزمتين إلى ما يمكن أن تحصل عليه المرأة مستقبلا، انطلاقا من حصولها على هذه الحقوق، ما جعلهم يعتمدون سياسة الهجوم المسبق عليها، والرفض المطلق لكل ما يمكن أن ينظر إليه على أنه من حقوقها، حتى لو كان ذلك من الحقوق المتفق عليها شرعيا وإنسانيا واجتماعيا.
________________________________________________
جزء من ورقة قدّمتها أخيراً في ندوة “التيارات الفكرية في الخليج”، ونظمها مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة قطر.
والمرأة التي تحولت إلى قضية، منذ بدأ الوعي بأهمية مناقشتها، ظلت دائما، وبمختلف تجلياتها، مفهوما غامـضا، ليس لعدم وضوح ما يشير إليه المفهوم وحسب، ولكن أيضا لتعمّد كثيرين ممن تناولوا هذا المفهوم، أو تماسّوا معه، أن يظل غامضا، حتى يظل متسعا لرؤى كثيرة مختلفة، بل ومتناقضة أحيانا. والأمثلة كثيرة، ويمكن الإشارة هنا إلى ما يروج منها في فضاء الأدب والكتابات الإبداعية بشكل عام، فالإبداع النسوي، والكتابة النسوية، والنقد النسوي، بالإضافة إلى مفردات أخرى قريبة منها، مثل أدب المرأة أو كتابات البنات، أو أدب الأظافر الطويلة… تتداخل في كتابات عامة أخرى كثيرة، وتبدو، في صورها المتداخلة أو المستقلة على حد سواء، تعبيرا جليا عن شكل (وحجم) التداخل الذي تتعرّض له القضية المركزية وتفرّعاتها الثقافية الكثيرة.
أما إذا قدّر لنا أن نتماسّ مع هذا كله في إطاره العربي، فلنا أن ننظر إلى هذا التداخل ذي الطبيعة الإشكالية بحجم مضاعف، بالإضافة إلى ما يحيل إليه هذا الإطار العربي للقضية برمتها من أسئلةٍ فرعيةٍ أخرى، تتعلق بصورة المرأة كائنا استفزازيا في المجتمعات العربية الراهنة، والخليجية منها بالذات، وهي الصورة التي انتشرت مجتمعيا وإعلاميا، بعد خروج المرأة في هذا الحيز الجغرافي إلى التعليم بكل مستوياته، ثم إلى العمل، ثم إلى مراكز اتخاذ القرار والمشاركات السياسية.
ولكن، بغض النظر عن طبيعة هذه الاختلافات والتداخلات، وقريبا من فهمنا لها في الوقت نفسه، نستطيع الإشارة إلى أن كل ما يتعلق بالحركة النسوية الحديثة، وبالمرأة كقضية، وبالمفهوم ككل، تخطّى الآن، بل ومنذ عقود عديدة، مرحلة الاعتراف به، وأخذ يتوغل في مختلف مجالات اهتمام المرأة والرجل على حد سواء، رفضا وقبولا، فالحركة تشق طريقها باستمرار نحو مزيد من الإنجازات على صعيد تحققها النهائي، بل إنها أصبحت متمركزةً في قلب فكرة الحداثة، حتى أنها، كما أرى، شكلت الجسر الثقافي شبه الوحيد للمرأة للمشاركة في “معركة”، وأصر على كلمة معركة، ما بعد الحداثة، بعدما ماتت أو تلاشت المذاهب الكبرى التي ادّعت اهتماما بقضايا المرأة في إطار تفسير شمولي مجّد النزعات الوصفية والعلمية والعقلانية، من دون أن تشعر المرأة بأن التمييز ضدها قد توقف فعلا. ولكننا لاحظنا أن النسوية، بدورها، تتحفظ أيضا على شمولية الخطاب، وترفض التحديدات المسبقة، وتشارك حركة ما بعد الحداثة في هذا التوجه. ويمكن رصد عديد الأمثلة المباشرة وغير المباشرة على ذلك.
ولا يضير النسوية كحركة أنها نزعة ثقافية تناصر المرأة، كما لا يضيرها أن تشارك معها، لأن نهاية عصر الحداثة أظهرت أن المساواة الثقافية هي منطلق كل مساواة، بعدما لمست المرأة أن المساواة القانونية التي حصلت عليها أحيانا، وما زالت تحارب للحصول عليها أحيانا أخرى، لم تُلغ التمييز ضدها، كما أن التعليم والاستقلال الاقتصادي والخروج من المنزل، وهي إنجازاتٌ أو حقوق مما كانت المرأة تظن أن الحصول عليها سيساهم في رفع الغبن الاجتماعي العام عنها لم تفعل سوى القليل على هذا الصعيد، بل الغريب أن هذه الحقوق في بعض المجتمعات صارت نقمةً، بدل أن تكون نعمة، لأنها لفتت أنظار المتزمتين إلى ما يمكن أن تحصل عليه المرأة مستقبلا، انطلاقا من حصولها على هذه الحقوق، ما جعلهم يعتمدون سياسة الهجوم المسبق عليها، والرفض المطلق لكل ما يمكن أن ينظر إليه على أنه من حقوقها، حتى لو كان ذلك من الحقوق المتفق عليها شرعيا وإنسانيا واجتماعيا.
________________________________________________
جزء من ورقة قدّمتها أخيراً في ندوة “التيارات الفكرية في الخليج”، ونظمها مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة قطر.
(العربي الجديد/ 3 أكتوبر 2019)