الرئيسية / مقالات سعدية مفرح / غرفٌ تنتمي لأصحابها
لوحة للفنان فان غوخ
لوحة للفنان فان غوخ

غرفٌ تنتمي لأصحابها

إلى أي حد يمكننا أن ننتمي إلى غرفنا الخاصة؟ ماذا يعني أن يكون للمرء غرفة خاصة يرتّبها وفقا لذوقه لتكون ملاذه الخاص وجغرافيته التي لا يشاركه فيها أحد؟ هل للمكان حقا سطوته الكبرى على من يعيش فيه، وإن كان هذا المكان مجرّد غرفة شخصية في المنزل، أو طاولة في المقهى، أو مكتب في مقرّ العمل، أو حتى شاطئ مهجور؟ هل ننتمي نحن إلى المكان الذي نعيش جل أوقاتنا فيه، أم أنه هو من ينتمي إلينا؟ ما الثابت وما المتحوّل في العلاقة بين المرء ومكانه أو أمكنته؟ وهل تتغيّر مستويات تلك العلاقة على مدى الزمان مثلا؟
“غرف تنتمي لأصحابها.. خمسون مكانا صنعت تاريخ الأدب”، عنوان أحد ألطف الكتب التي قرأتها هذا العام، وهو للروائي والكاتب أدريان موبي، معتمدا فيه على أربع حلقات إذاعية من إعداده، خلاصة لرحلات متعدّدة إلى مدن كثيرة، زارها مقتفيا أثر الكتّاب الذين عاشوا فيها. وعندما انتهيت من قراءته خلال جلسة واحدة، وضعت أسئلتي أعلاه، انطلاقا من مقولات الكتاب الصادر هذا العام بترجمته العربية عن دار كلمة للنشر والتوزيع في الكويت بـ260 صفحة من القطع المتوسط، مزوّدا بصور فوتوغرافية بالأبيض والأسود لقليل من الأمكنة المذكورة فيه.
الكتاب الذي نقله إلى اللغة العربية عبد الله عبيد بلغة جميلة، ينطلق من سؤال طرحه المؤلف “ماذا تقول الأمكنة التي لم يلتفت إليها أحد؟”، (ولا أدري ما الذي جعل أدريان موبي يقرّر جازما أن تلك الأمكنة لم يلتفت إليها أحد). حاولت أن أجيب على ذلك السؤال الافتراضي، نيابة عن غرفتي الخاصة، خصوصا أنني كنت متأكّدة أنها بالفعل لم يلتفت إليها أحد سواي، فلم أجد سوى بياض الجدران التي لم يتبق أمامي من مساحتها سوى القليل، بعد أن احتلت رفوف مكتبتي معظمها، لكن هذا البياض السديمي القليل كان كافيا جدا لأن يكون إجابة تخصّني، فقد أخبرني بكل خيباتي في أثناء الكتابة وخارجها، واقترح عليّ حلولا كثيرة لتجاوزها أيضا.
والكتاب يستعرض في فصوله الخمسين، كما يقول مؤلفه في مقدمته “كيف وجدَ عدد من الكُتاب والكاتباتِ، على امتداد القرنين الماضيين، الغرف التي ألهمتهم للكتابة”، متتبعا إياهم في الحانات والشقق والبيوت الريفية والمنازل، وغيرها من الأمكنة التي يشير الكاتب إلى أنها أصبحت الآن بمثابة مزارات أو متاحف أدبية لعشاق هؤلاء الكتاب.
وعلى الرغم من أن أدريان موبي لجأ إلى أسلوب التحقيقات الصحفية في رحلاته المتتابعة وراء أمكنة مؤلفيه المختارين في إيطاليا وبريطانيا وأميركا وبلدان أخرى في أوروبا وآسيا وأفريقيا، إلا أنه حاول أكثر من مرة أن يتخلّى عن ذلك الأسلوب الصحفي السريع، ليسبر أغوار النفس البشرية وعلاقتها مع تضاريس المكان حولها، فتقمّص أرواح بعض هؤلاء الكتاب، واستنطق بعض الشخصيات الشهيرة في قصصهم ورواياتهم، في محاولةٍ دؤوبة منهم، لاكتشاف أثر المكان على نفسية الكاتب، وما تمنحه الجغرافيا من طاقةٍ يمكن أن يفرغها عبر الكلمات، مذكّرا بعبارة فرجينيا وولف “النساء لكي يكتبن؛ بحاجة إلى دخل مادي خاص بهن، وإلى غرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة”. كأنه بهذا الاقتباس يلخص الإجابات كلها، حتى قبل أن ينطلق برحلاته في العالم، بحثا عمّا تركه الكتّاب وراءهم على الجدران والأسقف والأرضيات والطاولات من أسرار منسيّة، تشي ولو بالقليل من عوامل نجاح أعمالهم الأدبية التي تجاوزت الزمان.. والمكان أيضا.
26 ديسمبر 2019

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *