قادني المشهد القاسي لتشييع جنازة الروائي الراحل، ناصر الظفيري، بين ثلوج كندا، قبل شهور، باعتباره أحد أقسى مشاهدي الشخصية في العام 2019، إلى مقالةٍ قديمةٍ كنت قد كتبتها بعنوان “ما البداية؟ ما النهاية؟” من وحي قراءتي “جدارية” محمود درويش الشعرية الشهيرة قبل أكثر من عشرين عاما.
الفرق واضح بالتأكيد بين مشهد النهاية، كما رسمه درويش تمهيدا لنهايته الحقيقية على هذه الأرض، ومشهد النهاية الذي تجمّد في صورة مليئة بالثلج والأسى، توسّطها جثمان ناصر الظفيري في قلب تابوت حمله أصدقاء وغرباء في الأرض البعيدة. ولكن السؤال واحد؛ ما البداية؟ ما النهاية؟ وها أنذا أستعيد كلماتي حرفيا لمحاولة فهم معناه وما وراءه؛ “سؤال مزدوج يقودنا إلى إجابةٍ واحدةٍ تكاد تختلط فيها مفاهيمنا الموروثة عن فكرتي الموت والحياة، باعتبارهما متقابلتين حتى لا نقول متناقضتين. حياة تفضي إلى موت، وموتٌ يفضي إلى حياة، فالمادة، كما تقول كتب الفيزياء، لا تفنى ولا تخلق من العدم.
هل هذا ما وصل إليه محمود درويش في قصيدته، الخطيرة حتما، “جدارية”؟ هل هذا ما يريد أن يوصلنا إليه؟ أم أنه يحاول، عبر ما وصل إليه من حقائق، ما هي بحقائق، أن يرسّخ ذلك السؤال الوجودي الأزلي عن معنى الموت ومعنى الحياة؟ أسئلة كثيرة وإجابات أكثر توحي بها تلك الجدارية الشعرية التي صاغها درويش في بناء سيمفوني متصاعد، يهبط بعد أن يصل إلى ضربة القدر المركزية بشكل تدريجي، يناسب مراحل الحياة في تصاعدها ونزولها التدريجيين، حيث الشعر هو الحلم المتحقق حتما: سأصير يوما شاعرا/ والماء رهن بصيرتي.
يحتفي محمود درويش، في “جداريته” الطويلة، بالموت، كمن يريد أن يحتفي بالحياة، ربما لأنه يلج بوابة الموت عبر مزيد من ممارسة الحياة في حدّها الأقصى، في قدرتها الأكمل والأتم على أن تكون هي الهدف، وهي الطريق إلى الهدف في الوقت نفسه.
يقول في هذه القصيدة التي كتبها، بعدما خرج من غرفة العمليات في تجربةٍ شفيفةٍ مع المرض الذي كاد يودي به إلى طرف الذهاب الأخير، مخاطبا موته المنتظر:
هزمتْك يا موتُ الفنونُ جميعها/ هزمتْك يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين/ مسلّة المصري، مقبرة الفراعنة/ النقوش على حجارة معبد هزمتك وانتصرت/ وأفلت من كمائنك الخلود../ فأصنع بنا، وأصنع بنفسك ما تريد.
ينظر درويش، إذن، تلك النظرة الاستعلائية إلى الموت، كمن يرثي محاولاته المستمرة منذ أزل الحياة لإنهاء الحياة عنصرا عنصرا وفردا فردا من دون نجاح حقيقي، سوى تلك النجاحات الصغيرة المتراكمة عبر اللحظات الآنية من دون غيرها، فينجح الموت في ممارسة ذاته عبر الحالة الفردية الخاصة، ولكنه يفشل في تحقيق أي نصرٍ نهائي، أي نصر حقيقي، وتظل تلك النظرة المتباهية تجاه الموت هي موت الموت الحقيقي، وهي النقطة الأخيرة، ولعلها الأولى، في المعنى المتاح للبشرية، وفي الإجابة عن السؤال الكبير:
“وماذا بعد؟/ ماذا يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟/ هل يعيدون الحكاية؟/ ما البداية؟ ما النهاية؟/ لم يعد أحد ليخبرنا الحقيقة”.
والحقيقة التي غابت عن درويش في جداريته المبكرة، وغابت عن الظفيري في جنازته الثلجية، ستغيب دائما عن كل البشر، ليس لأن الموت غامض إلى هذا الحد وحسب، وليس لأنه قاس بما يكفي للأحياء وحدهم أيضا.. ولكن، لأنه يبقى السؤال المعلّق على حافّة الحياة، والذي لا ينبغي ربما أن نحصل على إجابة شافية ونهائية له.. قبل أن نذوق كأسه بأنفسنا!
(العربي الجديد/ 9 يناير 2020)