الرئيسية / فواصل / تحقيقات وقضايا / ​أيّام مع محمود درويش في باريس

​أيّام مع محمود درويش في باريس

إبراهيم العريس/

ذات يوم سيقول لي محمود درويش خلال جولة باريسيّة في سيّارتي، إنّ كلّ الحبّ الذي كان يكنّه في صباه لباريس، لم يكُن ليجعله في تلك الفترة المبكّرة من حياته يحلم بأن يكون يوماً “مواطِناً” فيها. قال أيضاً إنّ عيشه في باريس كان أجمل ما حصل له في حياته. غير أنّ محمود درويش لم يصل إلى باريس كي يستقرّ فيها برضاه أو طواعيّة. وصلها مُرغماً بالأحرى.

كان ذلك بعد فترة قضاها في تونس في ركاب منظّمة التحرير الفلسطينيّة إثر طرد السوريّين والإسرائيليّين معاً لمُقاتليها وقياداتها ومُبدعيها والمُلتَحقين العرب وغير العرب بها من لبنان في صيف العام 1982. صحيح أنّ تونس رحَّبت بمحمود درويش ترحيباً خاصّاً واستقبلته بما يليق به من حبّ وتكريم، لكنّه كان يشعر أنّ أنفاسه تضيق هناك… كان يتطلّع إلى آفاقٍ أوسع. وربّما من طَرَفٍ خفيّ كان يريد أن يبتعد بعض الشيء عن النشاط – والتعبير – السياسي المباشر الذي يمليه عليه وجوده مع المنظّمة. ومن هنا، ما إنْ لاحت له الفرصة للذهاب والعيش في باريس حتّى انتهزها. والواقع أنّه لم يصلها غريباً يبحث عن مَكانةٍ له، بل وجدَ نفسَه هناك مقبولاً، بل مُعترَفاً به كواحدٍ من أكبر شعراء العالَم. وهو كان يعرف أنّ ذلك هو دأب تلك المدينة التي اعتادت أن تستقبل المُبدعين فتُطلقهم إلى العالَم.

ذلكم ما حصل مع محمود درويش الذي لئن وجد نفسه معروفاً إلى حدٍّ لم يتوقَّعه في باريس، كما وجدَ نفسَه مُحاطاً بكُثرٍ من مثقّفين فلسطينيّين وعرب وفرنسيّين وعالَميّين مُقيمين ويعملون في تلك المدينة، أحسَّ وكأنّ عافيته عادت إليه “كأنّني في بيروت ولكنْ على نِطاقٍ أوسع كثيراً” سيقول. وربّما لن نكون هنا في حاجة إلى التذكير بكم أنّ إقامة ما يزيد على عشر سنوات في باريس قد صفّت لغة محمود الدرويش الشعريّة، والنثريّة بالتأكيد، كما سنرى بعد قليل، وأوصلت موضوعاته، الفلسطينيّة دائماً على أيّ حال، إلى آفاقٍ إنسانيّة ندر أن وصل إليها نصٌّ فلسطينيٌّ، مُسبغةً على حياته وسلوكه أنفسهما بساطةً مركَّبة فاتحةً أمامه اهتمامات كانت دفينة لديه من قبل: كرة القدم، النبيذ، التاريخ، استعادة ذكريات المُدن العربيّة، إعادة النّظر في كثير من المفاهيم، انفتاح خلّاق على نَوعٍ راقٍ من الكوزموبوليتيّة، وتفاعُل مع يسارٍ ناقِد حلّ لديه محلّ شتّى ضروب اليسار الجامد التي كان يجد نفسه أسيراً لها في “مَنافيه العربيّة القديمة”.

دائما ما كان درويش يقول لنا إنّه يشعر في باريس وكأنّه وُلد من جديد. هو الذي راحت الفكاهة السوداء تعود إليه، ولاسيّما حين يكون الحديث عن المرأة أو عن كرة القدم.

ولكنْ مَن كنّا، نحن، الذي اعتاد محمود أن يُصارحنا بمكنونات قلبه ونحن معاً من باريس؟ بخاصّة رفاقه الصحافيّين في مجلّة “اليوم السابع” التي صدرت فلسطينيّة التمويل والهوى في تلك الآونة في باريس بدعمٍ مباشر من ياسر عرفات، وبرعاية حنون من محمود درويش نفسه. وكنّا نحن الذين نُصدرها ونكتب فيها، بضعة لبنانيّين خرجوا مع الرفاق الفلسطينيّين من لبنان إثر الغزو الإسرائيلي وتحوُّل الحرب اللّبنانيّة إلى مَعارك طائفيّة وعنصريّة. كان هناك أوّلاً بلال الحسن، رئيس التحرير الفلسطيني الذي كان ولا يزال واحداً من أكثر الصحافيّين الفلسطينيّين انفتاحاً وليبراليّة، وكان رئيس التحرير، والراحل جوزف سماحة المسؤول عن الشؤون السياسيّة في المجلّة. وكان واحداً من أقرب أصدقاء محمود درويش إلى نفسه، وأنا إبراهيم العريس مسؤول الشؤون الثقافيّة، وإلى حدٍّ ما مُستودَع أسرار محمود العاطفيّة، إضافة إلى آخرين. كان محمود أشبه بعرّابٍ حقيقي للمجلّة، وكتبَ فيها أروع نصوصه النثريّة وأجرى مراسلات في غاية القوّة مع مواطنين له مثل سميح القاسم وإميل حبيبي. كذلك كان الاسم الذي تستخدمه المجلّة لاجتذاب كُتّابٍ كِبار آخرين، من إميل حبيبي نفسه إلى الطاهر بن جلون، ومن خوان غويتسولو إلى جمال الغيطاني، ومن طارق البشري ومحمّد عابد الجابري وهشام جعيّط إلى عشرات غيرهم من نُخب الكتّاب المُبدعين العرب.

كان محمود حاضراً في المجلّة يوميّاً من دون أن تكون له وظيفة حقيقيّة فيها. وكنتُ أنا أتلقّى بريده عنه، بطلبٍ منه، وأصفّيه قبل أن ألخّصه له. وليس سرّاً أنّ معظم الرسائل كانت رسائل غزل تثير ابتسامته علناً، ورضاه سرّاً، على الرّغم من الزهد النسائي الذي كان يبديه.

فايزة أحمد أو مارسيل خليفة

في باريس كانت علاقتنا بمحمود درويش يوميّة إذاً. لكنّه كان يُخصِّص وقتاً كثيراً للالتقاء بأصدقاء آخرين قريبين بدَورهم منّا، لكنّهم في خارج حلقتنا الخاصّة. كان هناك إلياس صنبر الذي ترجم العديد من كُتبه وأشعاره وكانت له إسهامات أساسيّة في إطلاق تلك الكِتابات إلى العالَميّة، وليلى شهيد، الدبلوماسيّة والمثقّفة الفلسطينيّة المُبدِعة وزوجها الناقد المغربي محمّد برادة؛ وهما عرّفاه على العديد من المثقّفين اليهود المُنشقّين، والذين كانوا من داعمي العمل الفلسطيني في باريس، ومن بينهم ألان غريش، الابن غير الشرعي للمُناضل المصري اليهودي هنري كورييل الذي كان الصهاينة قد اغتالوه قبل فترة بسبب نضاله مع الفلسطينيّين، وغريش كان، ولا يزال، رئيساً لتحرير صحيفة “لوموند دبلوماتيك” التي فتحت صفحاتها لمحمود درويش، ما مكّنه من الإطلال على صحيفة “لوموند” الكبيرة نفسها. إضافة إلى السوريَّين فاروق مردم بك وبسمة قضماني زوجة الصحافي الفلسطيني نبيل درويش في ذلك الحين، وهو قريب فلسطيني لمحمود، يعيش اليوم في القاهرة، وهالة قضماني التي تُبدع اليوم في تعريف القرّاء الفرنسيّين بالشؤون والكُتب الفلسطينيّة في أمّهات المطبوعات والمَواقِع الباريسيّة. وكانت هالة زوجة لفلسطيني آخر يعمل مع المنظّمة وافتتحَ ذات يومٍ مَطعماً ومطحنة بنّ في وسط العاصمة الفرنسيّة، سرعان ما أصبحا مقرّنا الرسمي بعد ظهر كلّ يوم: محمود وأنا ورياض هيجر صاحب المطعم وجوزف سماحة ومروان بشارة وآخرين. ولئن كان رياض ميّالاً لأن يبقي على الموسيقى العربيّة صاخبة في المكان، فإنّه إذ حاول يوماً أن “يُسايرنا” ببثّ بعض الأغاني “السياسيّة” لمارسيل خليفة وغيره، صرخ به محمود زاجراً: “لا… أرجوك أليس لديكَ شرائط لفايزة أحمد؟!”.

في الحقيقة إنّ أذواق محمود درويش الموسيقيّة والغنائيّة راحت وهو في باريس تنحو باتّجاه فَورة الغناء العاطفي في الخمسينيّات والستينيّات القاهريّة. وهو من هنا، حين كنتُ أصحبه في سيّارتي برفقة جوزف سماحة دائماً في الشوراع والأزقّة الباريسيّة، كان منذ ركوبه السيّارة يبحث بين شرائطي عن أغنيات لفايزة أحمد وشادية وأحياناً لعبد الحليم حافظ كي تصحبنا في التجوال. وربّما أتذكَّر أنّ أغنيته المفضَّلة دائماً، والتي يستعيدها كلّ مرّة ويُدمدِم معها كانت “إنْ راح مِنّك ياعين” لشادية، من كلمات مجدي نجيب وموسيقى منير مراد. وأذكر أنّه هو الذي نبَّهني إلى أنّ الموسيقى لمراد، وأنا كنتُ أعتقد أنّها لمحمّد الموجي. كان محمود شغوفاً بهذه الأغنية يُشاركه شغفه جوزف سماحة، ولقد انتقل هذا الشغف إليّ بحيث إنّها لا تزال أغنيتي المفضَّلة حتّى الآن. وأحبّ أن أعتقد الآن أنّ شغف محمود بهذه الأغنية، إنّما كان تعبيراً عن شوقه الدائم لكلّ ما هو مصري، هو الذي كنّا نمضي ساعات وساعات في بَيته في شارع “الولايات المتّحدة” في الدائرة السادسة عشرة في باريس، وهو يُحدّثني عن القاهرة، وغالباً من خلال استعادتنا معاً بالتحديد قاهرة نجيب محفوظ. ومحمود كان شغوفاً بنجيب محفوظ وقال لي مرّة إنّه قرأ الثلاثيّة مرّات ومرّات ولا يشبع منها. ومن هنا حين فاز محفوظ بجائزة نوبل طرب إذ وجدني أخصّ ذلك الفوز بغلافٍ وملفّ في “اليوم السابع” مع عنوانٍ للغلاف يقول: “يوم عادي جدّاً في حياة السيّد محظوظ”. ولهذا الغلاف حكاية جديرة بأن تُروى. فيَوم إعلان الفوز اتّصلتُ بأستاذنا محفوظ من باريس لأهنّئه وأسأله تصريحاً مُناسباً، فقال لي إنّه إنّما هو يوم عاديّ جدّاً في حياته وإنّه يعتبر نفسه محظوظاً بالمبلغ الذي سيقبضه هو الذي يخشى ألّا يترك لبنتَيه وزوجته قرشاً بعد وفاته. ومن هنا وضعتُ العنوان الذي طَرُب له درويش! وأذكر أنّنا سمعنا الخبر يَومها من راديو الشرق فيما كنّا نتجوّل في سيّارتي معه ومع جوزف سماحة في بعض الشوارع الباريسيّة، فعُدنا من فَورنا إلى المكتب وشرعنا نعدّ الملفّ.

قهوة وبليار ومارادونا

طبعاً خلال الفترة الباريسيّة التي كانت واحدة من آخر حقب المنافي في حياة محمود درويش، والتي ارتقت فيها مَكانته ليُصبح المُعادِل العربي لشعراء كِبار من طينة نيرودا وغارسيا لوركا، والمُبدِع العربي الكبير المُعاصِر، نثراً وشعراً الذي يوضَع في مصافّ كِبار مُعاصرين له باعترافهم، من أمثال خوسيه ساراماغو وأمبرتو إيكو وروبرتو مانغال وخوان غويتسولو وآرثر ميلر، خلال تلك الفترة راحت نصوص وأشعار محمود درويش تُترجَم، وأقواله تُنقل، وجعله جان لوك غودار جزءاً من فيلمه البديع “موسيقانا”. كما حُقِّقت عنه أفلام كثيرة، لعلّ أفضلها الفيلم الذي حقَّقته المُخرِجة المغربيّة الأصل، واليهوديّة المنشقَّة سيمون بيتون وصوَّرت فيه بين مشاهد أخرى رحلة عودته إلى فلسطين ولقاءه أمّه في قريته البروة. وكان ذلك في أخريات حياته عند بدايات إصابته بأمراض القلب التي ستقضي عليه بعد فترة. أمّا هو فلم يَبدُ مُبالياً كثيراً بكلّ ذلك… أكثر ما كان يُبالي به كان رائحة البنّ التي كان يستنشقها بفرحٍ طفولي حين نجلس في مطعم البنّ الذي يملكه رياض هيجر في الدائرة الباريسيّة الخامسة عشرة. ومعرفته الدقيقة بقوانين كرة القدم، ولكن في المُقابل فشله، هو وجوزف سماحة في أن يُفهماني قاعدة “الأوف سايد” أيّام مُباريات كأس العالَم التي كانا يشاهدانها بصمتٍ إلهي. وكذلك فشلي وفشل جوزف سماحة في تلقينه قواعد البليار الذي كنّا نلعبه كلّ يوم جمعة في مقهى قريب من المطعم، فيجعل محمود من نفسه جمهورنا الوحيد المصفِّق من دون أن يفهم شيئاً فيما نلعب جوزف سماحة وأنا وبضعة أصدقاء آخرين بحماسة مُحاولين أن نشرح له ما يحدث.

طوال رفقتنا الباريسيّة التي دامت قرابة عشر سنوات، ظلّ البليار عصيّاً على محمود درويش. كما ظلَّت كرة القدم عصيّة عليّ، – حتّى وإن كان محمود يحبّ أن يلقّبني مارادونا من دون أن أفهم لماذا، حتّى أفادني جوزف سماحة ذات يوم بأنّني لا أزيد طولاً عن اللّاعِب الأرجنتيني الكبير، مُتنبِّئاً بأنّ كرش هذا الأخير سيُصبح ذات يوم على حجم كرشي!!!.- فيما ظلَّت رائحة البنّ وصوت فايزة أحمد وشادية شغفنا المُشترَك. أمّا الإبداع والشعر والسياسة فكنّا نتركها للآخرين.

(المصدر: نشرة أفق الإلكترونية – 102)

3 مارس 2020

عن Saadiah

شاهد أيضاً

دائرة الضوء؛ خلف جدار اسمنتي

أحمد ناصر السميط/ تمثل المعرفة المدخل الرئيس لبناء الفكر والثقافة الجماهيرية والفردية، وهذا الأمر تتوارثه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *