أ. أنوار فاهد مخلد(*)/
تميل الشّمس في الأفق، تُرسل ما تبقى من أشعتها التي امتزجت مع زُرقةِ السّماء، بلونٍ وردي حالم مع درجات ألوان الغروب، خلف السُّحب المُتفرقة. هدوء الأجواء خلف النافذة التي كان يجلسُ بِقُربها، ورائحة الطعام المنعشة المُعدّ للإفطار، مَلأت أجواء المنزل بدفء العائلة التي كان يشعر بها، في أول يومٍ من أيام الشهر الفضيل، شهر رمضان المبارك.
كان ينظر لذلك المنظر الحالم عبر النافذة، وعينياهُ على المئذنة العالية بعيداً، وقد بدا قُرص شمس المغيب المستدير خلفها كبيراً حانياً بلونه البُرتقالي، أخرج تنهيدةً عميقة، ينظر للمئذنة وقد ملأ قلبه الحُزن شوقاً، فقد حاوطه الفراق هذا العام. لقد اشتاق لهدوء المسجد، وتجمّع الأصحاب قبل إقامة الصلاة، فارق صلاة التراويح وسماع ترتيل القرآن، وهمسات المصلين في السجود. كان قلبه يعتصر ألماً كُلما تذكّر حلقات تحفيظ القرآن بعد صلاة التراويح، وما كان يُحضره لتلك من حلوى طيّبة كطيبة وجوههم وأيديهم وهي تحمل القرآن.
وفي غمرة الحنين، شعر بيدٍ تَربّت على كتفه بحنان، فالتفت ليجد والدته وهي تنظر إليه بعتب حنون. لقد علمت شوقه ولهفته، تعلم جيداً ابنها وقلبُهُ المُعلّقُ بالمساجد، كيف كان دائماً يركضُ مسرِعاً مُتلهّفاً مع نهاية كل فصل دراسي، مُحضراً لها هديةً وورقٍ فاخر مُغلّف. كان ذلك الورق، شهادةَ إتمامِ حفظِ جزءٍ من القرآن، أحضرها من ذلك المسجد في الحي المجاور، حينما كان يحفظ في حلقات تحفيظ القرآن ذاتها.
أبعد ناظره عن عينيها، خشية أن ترى الحزن الجاثم في عينيه، فأطرق رأسه يُقبل يديّها، مخاطباً اليدين مازحاً: ماذا صنَعتُما لنا اليوم من أطباقٍ شهيّة؟ ثم رفع رأسه بابتسامةٍ عريضةٍ، وهي تنظر إليه بحنانها الذي يُحب، لترُدَّ على سُؤاله: كُلّ الخير الذي تُحب يا بنيّ، كُلّ الخير سيكون مع هذا الشهر الفضيل بإذن الله. رفعت رأسها لتنظر للمنظر الحالم للغروب خلف النافذة، واستكملت قائلة: “إن الله يعلم شوق القلوب ومُناها، وهو أرحم منّا على قلوبنا، فترّفق يا بني لحالك – ثم نظرت إليه – ستعود بإذن الله للمسجد وأنت في صحةٍ وعافية، ستعود الحياة من جديد كما كانت، بل وأفضل، لذا عليك الآن أن تستمتع بخلوتك مع الله وتدعو لنا بالفرج”.
أخذ نفساً عميقاً، لينظر إلى النافذة مُجدداً، قائلاً: “رغم ثقتي بالله المُطلَقة، إلا أنني بحاجةٍ دائمة لسماع هذه الكلمات- ثم نظر إليها يستكمل الحديث – هذا أول رمضان أصلي في المنزل، ومع ذلك سأحرص على صلاة الجماعة مع والدي وإخوتي، وسأنظم حلقة لتحفيظ القرآن هنا لصغار العائلة، سيكون لنا مسجداً في بيتنا، إلى أن يزول الوباء ونعود لمسجدنا هناك” وهو ينظر للمئذنة وقد غابت الشمس، ورُفع الآذان. واجتمعت العائلة على أول مائدة لشهر رمضان، رغم الوباء آمنة تتلهف الفرج القريب مع حلول العيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) قسم الإدارة والتخطيط التربوي
كلية التربية – جامعة الكويت
مدينة صباح السالم الجامعية
شاهد أيضاً
دائرة الضوء؛ خلف جدار اسمنتي
أحمد ناصر السميط/ تمثل المعرفة المدخل الرئيس لبناء الفكر والثقافة الجماهيرية والفردية، وهذا الأمر تتوارثه …