إبراهيم محمد نصير/
دوَّتْ رعود السّحب في دُجى اللّيل البهيم ، غيوم تتلاطم بغزير مائها ، تحرِّكها الرّيح مُزمجرةً ، وتدفعها متثاقلة متوعّدةً . تشعر بهيبة سواد اللّيل حينما يصفّر الهواء وكأنّه عواء ذئب على قُنّة جبل . استيقظ الجميع من هول الحدث ، يقرصهم البرد ، ويخطف أبصارهم برق مهيب ، يقضّ مضجعهم هزيم الرّعود مرّة بعد مرّة . تآزر كلّ أولئك جميعا ، فانقضّوا علينا انقضاض الأُسد على صغار القطيع .
فانهمر الماء وتدفّق ، واندفع وجرى ، وسال . رفعتُ لحافي عن وجهي خائفا فزعا ممّا يحدث في منتصف اللّيل في شتاء يناير ذاك . لم أكن أتبيّن شبح أمّي عبر زخم تلك القطرات الّتي استحالت خيوطا مستقيمة وكأنّها قضبان حبْسٍ تحوطها وتأسرها خلفها .. يا لأمّي المسكينة ! التصق ثوبها بجلدها حتّى أنّي لم أدرِ من التصق بالآخر . يكاد المطر في شدّته يشبه شلّالا يصبّ جام غضبه على الأرض ، يجلد ظهر أمّي الحنون بسياط لا تنفكّ تلسعها ، عبثا تتّقي ضرباته . كان قلقها ورعبها قد ملأها شجاعة وقوة ، غير أنّها تبلبلت حينما رأت عيالها قد روّعهم الهزيم فانهزمت نفوسهم الصّغيرة ،ولا يزالون يودّون العودة إلى مضاجعهم ليكملوا أحلامهم ، لا يملكون حولا ولا قوّة ، وليس بمقدورهم وقف فيضان الماء وهو يزحف إليهم في عقر دارهم . . وأمّا تلك المسكينة فلم تتوانَ ولم تهن ، وإنّما أخذت تضرب وتلوّح بيديها ذات اليمين وذات الشّمال ، حتّى خيّل إليّ أنّها في وسط قارب يتسرّب إليه الماء وهي تجدّف ما وسعها لتنجي نفسها من هلاك وشيك . بيد أنّنا كنّا نثق بأنّها سَتُبعد عنّا الماء المخيف ، ولكن أنّى لمِمْسَحَة هزيلة أن توقِف جريان مدّ الماء المنهمر !
لا أزال أرى شبح جسدها عبر فرجة الباب المطلّ على فِناء البيت الذي استحال بحيرة صغيرة ، أراها عند ساحلها الأقرب إلي عتبة دارنا ، تجِدُّ في جرف الماء بعيدا عنها . وكلّما ومض البرق ومض محيّاها في عزم لا يلين . ولست ألمح منها سوى الماءَ يسحّ من وجهها كأنّه يسيل في أخدود صخريّ ، وهي غير آبهة ، ولا مكترثة، ولا مبالية ولو غمر الماء روحها ، وكان قد غمرها وبلّها ، فصارت كمثل تلك الغيوم غيمةً تقطر ماءها جارياً .
تحني ظهرها مرّة ومرّات ، لا تني ، ولا تروم شيئا غير عيالها . تنظر إلينا خلَلَ زخّات المطر تارة ، وترنو إلى السّماء تارة أخرى تُتمتم بشيء ما ، ثم ما تلبث أن تحني رأسها نحو الأرض مرّة أخرى . ويستمر الصّراع بين الاثنين دائرا إلى وقت لا أدريه ؛ فقد غفتْ عيناي وعدتُ إلى حلمي .
اليوم أفقت من حلمي ذاك ، لأجد أنّ تلك اللّحظة كانت هي حلمي ، لحظة كانت فيه تلك الأمّ أمّي الحنون وتلك المرأة الرّائعة ” فضّة” تستجمع قواها شرسةً لتحمي أبناءها من مخالب اللّيل وعواء الرّيح وجحافل الرّعود وزحف المطر . أمّي ” فضّة ” كيف أوفيك حقّك من تلك اللّيلة !
شاهد أيضاً
دائرة الضوء؛ خلف جدار اسمنتي
أحمد ناصر السميط/ تمثل المعرفة المدخل الرئيس لبناء الفكر والثقافة الجماهيرية والفردية، وهذا الأمر تتوارثه …