أنوار فاهد المخلد(*)/
في زاوية الغُرفة المُضاءة بأشِعة الشّمس، كانت تَجلس على الكُرسي الزّهري قُرب المكتبة الكبيرة التي احتوت كُتُبها منذ الصّغر. تُقلب مُذاكراتها التي أخرَجَتها من صُندوق الذّكريات المَركون على الرَّف في الأعلى، تقرأ تلك الخُطوط الرّكيكة التي كُتبت بأنامل المُراهقات الصّغيرات، صديقاتها العزيزات، لأيامٍ مَضت عاشتها مَعهُن في حُلوّها ومُرّها من أيام الدّراسة.
نظرت لظِلال السّتار المُعلق بِنُقوشاتِه المُزهرة على أرضيّة الغرفة، أخذت تنهيدةً عميقة، تتذكّر ذكرياتٍ مضت من حياتها الحافلةِ بالنشاط. تساءلت بداخلها بِحزن: لقد كَبِرنا، وكَبُرت أحلامُنا مَعنا، عِشناها ولكنّها وفي لحظةٍ تَوقّفَت، تَجمّد كُلُّ شيء مع برودة الوباء الذي أتى في فصلِ الشّتاء، فهل لنا مع قُدوم الصّيف دِفءٌ لأحلامِنا وحركةً لها؟ وتساءلت: كم سنلبثُ قابعين في البيوتِ خوفاً على صحتنا؟
لقد تبقّى فقط يومٌ واحدٌ وينتهي الحظر الكلي للوباء، سنخرج للحياة أخيراً، لكِنّنا سنخرجُ لحياةٍ جديدة لم نألفها سابقاً! شعورٌ غريبٌ من الوحشة لهذه الحياة الجديدة انْتابها، وهي تُفكُّر فيما مضى من حياةٍ كريمةٍ عاشتها، هزت رأسها تحاول نُكران هذا الشعو، وردّدََ لسانُها: “الحمدلله على كل حال”.
أخذت المُذكرة بحنانٍ بين يديها، وما إنْ وصَلت لمَكانِها على الرَّف تَضَعُها حتى سَقَطت ورقةٌ صغيرةٌ مستطيلةٌ عتيقة، كُتب عليها بخطٍ عربي جميل. وضَعت المُذكرة في مكانها، ثم أخذت الورقةَ الصّغيرة من الأرض، تَقرأُ خطوطَ الأحرُف المُتَشابِكة بِجمالِ انْسيابِها وتَشكيلِها، كُتبت جُملةً بخط كبير جميل: “البارِحة ذكرى اليوم، والغَد حُلُمه” ثم قرأت جملةً تحتها كُتبت بِخطٍ صغير مُتشابك: “الوقت مُعلمُ من لا مُعلمَ له”.
وفي حيرةٍ من وُجودِ هذه الوَرقَة في مُذكراتها، لا تَعلَم من صاحِبَها، تُحاولُ جاهدةً تذكُّر مَن أهداها؟ سَمِعت صوتَ بابِ الغُرفة يُطرَق، “أنهار حان وقتُ الغداء، وضَعتُ لكِ طبَقكِ الذي تُحبين”، كان ذلك الصُّوت الشَّجي هو صُوتُ والِدَتِها التي ما إنْ سَمِعتهُ حتى ذَهبت مُسرعةً تَفتحُ الباب، كانت الأم مُتعجبة لِلَهفة أنهار، وقالت لها: لا تقلقي طبقٌ خاص بِك وَحدك، لقد حَصلتي على الوظيفة هذا العام بعد التخرج من الجامعة ولا زالت تَصرفاتُك كالأطفال!” وما إنْ استدارت الأم للذهاب، حتى أسرعت أنهار في السؤال رافعة الورقة لمى نظر عيني والدتها: “أمي هل تعرفين صاحب هذه الورقة؟”
تَمَعّنَت الأم بتلك الورقة، وظهر في عيّنيها شيءٌ من الحنين، بدأت تبرقُ تلك العيّنانِ بوميض بالدموع المُتجمعة، حتى فاضت بِرفق. نَظرت أنهار مُرتبكةً حائرة، تتساءل بِداخلها: ما الذي جعل أمي تُخرج تلك الدّموع الغالية؟ مسحت الأم دمعةً سقطت، وقالت: “هذا الخَطُّ الجميل، خَطُّ جدّتك الراحلة، خَطّت تلك العبارات ووضعتها في كتابي المُفضل، كي أرجع لقراءتها مِراراً”. تنظر أنهار لوالدتها بِصمتٍ يَغْمُرُهُ الحَنين، وتُكمِلُ الأم: “أنا وضَعتُها لك، في يوم حفل التَّخرج من الجامعة العام الماضي، لأنني أعلم حُبك
لتلك المُذكرة”. رِدّت أنهار بحماس طفولي وهي تنظر للورقة العتيقة التي تمسكها، تُكابد تلك الدموع بعينيها: ” لكنّني، لم أكُن أعلم بجمالِ خَط جدتي؟ فهل تُخبريني معنى هاتين العبارتين؟”
تجيب الأم: ” كانت أمي مُعلمةً للغة العربية مُحبّةً لفنون الخط العربي، تُعلم طالبات المَرحلة المُتوسطة فُنون الخَطّ أوقات النَّشاط المَدرسي، وكانت دائما ما تَحرصُ على الوقت، وتخبرني أن الوقت هو الحياة، فحينما أُصاب بالهَّم أو أشتكي وأنْغَمْ، تردد وتقول لي: “أنَّه مهما مَرَرنا من ظروفٍ قاسية ومشاكِلَ مُرهِقة، فلابد مِن أن نَستمر في الحياة بتفاؤل، لابُدَّ مِن تَجاوِز عَثراتَ الحياة بالرَّضا، فالحياة ثواني ودقائق تجمعها ساعاتٌ وأيامٌ مَعدودة، إنْ لم نُحسن استِغلالها، أفسدنا حياتَنا كُلّها”، نظرت الأم لأنهار واستكملت: “انظري لحالِنا اليوم مع الوباء، رُغمَ ما نُعانيه، فنحنُ نعيش يا أنهار، نُحاول قدرَ المُستَطاع أنْ نَتكيّف، مع هذه الأوضاع الجديدة، نتأقلم مع ما استجد بِحذر، نُحافظ على حياتنا، فهل فَهمتِ الآن مع أيّام الوباء هذا العام معنى “أن الوقت مُعلم” يا أنهار؟”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) قسم الإدارة والتخطيط التربوي
كلية التربية – جامعة الكويت
مدينة صباح السالم الجامعية