أحمد السميط
كانت النخلة ومحاصيلها مصدر من مصادر الحياة في بيئة الجزيرة العربية القاسية، ودأب أهل الجزيرة منذ القدم على زراعة النخيل والعناية به، وعلى سنة البشر استن عرب الجزيرة عادات العناية بالنخيل وزراعته في كل موطن يستوطنونه، وحديثي عن ذلك الإنسان الذي ارتحل من بستان النخيل في جزيرة العرب ليصنع لنفسه بستاناً آخر في موطنه الآخر أينما كان، وشواهد هذا الفعل البشري عديدة، وهي قصة تختصر قيمة الأثر لدى الإنسان، والأثر أمر بليغ جداً سواء حمله الإنسان في صدره، أو صنعه على عينه، فالإنسان بآثاره الباقية يزهر ويحصد ثماره كمثل حال النخلة التي يرعاها ذلك العربي وينقلها معه أينما حل أو ارتحل.
في قصص الهجرة من شبه الجزيرة العربية وهي موطن العرب الأصلي ولعلهم الشعب الأكثر شهرةً بارتباطه بالنخيل، نجد أن قصة الهجرات عادةً لا تلفت الانتباه للآثار التي يخلفها ذلك المهاجر، ويزعم بعضهم أن عرب الجزيرة لم يخلفوا شيء ذا قيمة للأسف الشديد، ولكن السائر في طريق هؤلاء المهاجرون يجد أن منازلهم إن درست فبساتين نخيلهم لا تزال باقية، ولعمري أن عجائب البشر التي صنعت من حجر قد ترجمها ذلك المهاجر بهذا الشجر، وهنا نجد أن الأثر أمر قد استحضره ذلك الإنسان وسعى لصناعته، ولكنه أثر مختلف فلن يكون شاهداً ماثلاً بل حياً منتجاً، وهو أعظم أثراً من تلك الحجارة الصماء، وأقدر قيمة عند تلك الأجيال التي تناست اليوم قدر تلك الطليعة المهاجرة منذ فجر التاريخ في هذه المنطقة.
أن من فطرة الإنسان أن يترك خلف أثراً يستدل به عليه، وأعظم تلك الآثار التي ترسخ في الوجدان فتغدو سلوكاً يعتاده الناس و يألفونه، ولا عجب أن تكتشف أن هناك عادات مضى عليها مئات السنين، والطريف أن الناس اليوم قد لا يعرفون سر تلك العادة القديمة، هذا النوع من الآثار له ميزة فريدة وهو أنه أثر متجذر، وهو أمر أعمق من الصورة، وامتداده أبعد من الذاكرة، إنه شيء يصبح جزأ منك ومن تصرفاتك، فيدل عليك دون وسيلة استدلال، بمعنى أن الإنسان منا هو ثمرة تلك الآثار، وهي مطبوعة محفورة وراسخة كتلك النخلة التي تزرع منذ آلاف السنين.
في نهاية المطاف الناظر في محطات الطرق الإنسانية يتلمس آثار تلك الشعوب والأمم، و إن أثر خالد كالنخيل بما يحمل من معان الصلابة والثبات والتحدي، نجد له من آياته في نفوس تلك الجموع التي انتقلت من بيئته وإليه الشيء الكثير، وكذلك هو حال كل أثر ينال الإنسان منه إسمه ورسمه، فيبقى الأثر مغروس به وهو محمولاً عليه يمنحنا اليوم صورة الإنسان الذي نرى ونعرف، وذلك الأثر لا يكون طيف عابر، ولا خيال خاطر بل هو مفاهيم أصيلة ودلائل جليلة ترسخ وتبني الجيل تلو الجيل.
ودمتم بود