لوحة لبيكاسو
لوحة لبيكاسو

أنا لا أثق بك!

تقول الروائية بثينة العيسى: «أنا لا أثق بأي إنسان لا يخوض حربا مع نفسه». وأنا مثل بثينة تماما، لا أثق بمثل هذا الإنسان الذي تمر به الأبطال كلمى هزيمة ووجهه وضاح وثغره باسم، وفقا لتعبير المتنبي.

لا أثق بإنسان لا يموت ألف مرة ومرة في حربه مع ذاته، وينتصر في المقابل ألف مرة ومرة قبل أن يقرر فكرة ما في سياق حياته.

لا أثق بإنسان واثق الخطوة يمشي ملكاً في غابة الأسئلة، ويخرج منها بابتسامة بلهاء وقميص نظيف تماما، وبشرة لم تخدشها شوكة على الأرض ولا غصن نافر.

لا أثق بإنسان يثق بنفسه من البداية حتى النهاية، فيمضي في حياته المرسومة بالمسطرة والقلم والفرجار على خط مستقيم ليصل في النهاية، كما يظن، الى تلك النقطة المرسومة سلفا في نهاية الرحلة.

لا أثق بإنسان يتناول أحداث حياته بالشوكة والسكين!

لا أثق بإنسان يركب قطار الأفكار، وهو يعرف رقم محطة الوصول وزمن الرحلة.

لا أثق بإنسان يثق بنفسه الى الحد، الذي يجعله لا يتقبل أي فكرة جديدة فقط، لأنه يملك الفكرة التي لا يحتاج لغيرها كما يظن.

لا أثق بإنسان يغلق باب ونوافذ عقله، كما يغلق باب ونوافذ غرفته، قبل أن يفكر بالكتابة أو القراءة!

لا أثق بمثقف يجلس على المنصة ليلقي على الجماهير أفكاره الجاهزة ووصاياه، وخلاصة ما تعلمه من الحياة، وكأن للحياة خلاصة نهائية! وبعد أن ينتهي من القول يلملم أوراقه ويحيي الجماهير، ويقفل راجعا للبيت من دون أن يستمع لسؤال أو فكرة مناقضة لما يقول، بل يكتفي بتصفيقهم تأييدا لما قال وينتهي الأمر.

لا أثق بفقيه أو شيخ يعتلي المنبر ليتحف الحضور الجالسين على الأرض خاشعين، بكلامه الذي لا يرد ولا يقبل المساءلة والتأويل لأنه من عند الله!

لا أثق بمن يقول ولا يستمع، أو يكتب ولا يقرأ، أو يعيش حياته من طرف واحد.

لا أثق بأولئك الذين يصفون أنفسهم بأنهم ثابتون لا يتغيرون، وهم لا يدركون أن التغيير سمة الحياة وسنتها، وأن الحجر نفسه يتغير لو تعرض لعوامل التعرية والنحت في الطبيعة، كالمياه والرياح وغيرها.

لست متناقضة، عندما أقبل بالأفكار المتناقضة وأتبناها أحيانا، لكنني أخوض حربا مع نفسي. حربا مستعرة تماما، لا منتصر فيها ولا مهزوم تحرقني، ولكنني لا أريد الخروج منها الا الى حيث لا أعرف ماذا أقول ولا ماذا أكتب ولا من أنا.

نعم أنا في حالة غليان دائم. أفتش عن الأنا الكامنة وراء الأشياء والأفكار والمعتقدات. أتقبل كل شيء وأخوض فيه. أحب تماما أن أخوض في طين المعنى وأبحث في أعماق المياه الأسنة عما يمكن أن يكون جوهرا للوجود.

لا.. لست من عشاق الأفكار المعلبة على أرفف المكتبات، حتى وفي منصات الكلام، ولا أريد أن أتبنى أي فكرة جاهزة مهما كانت مناسبة في مقاساتها لي.

أحب الأفكار الناقصة، والمشروعات الناقصة والكتب الناقصة والقصائد الناقصة، وأكره الكمال الزائف في كل شيء.

أحب نتوءات الجبال وتعرجات الطرق ومفاجآتها.. لذلك كله لا أثق بك أيها السوبر مان!

(القبس/ 29 سبتمبر 2014)

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

تعليق واحد

  1. عبدالمحسن عامر

    مقال جميل ورائع وأنا أملك نفس الأفكار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *