لن أخدعك بسحر الكتابة.. لكنها اللذة!
ليس هذا النص هو الذي أعددته للنشر في هذا الكتاب(*) أولاً. كنت قد كتبتُ رسالة مبهجة مليئة برائحة الزهور وألوان الفراشات وضحكات الدببة الصغيرة وأزياء باربـي، بالإضافة إلى ألعاب الأجهزة الذكية وصور أشهر لاعبـي كرة القدم في العالم وشعارات فريقي برشلونة وريال مدريد، و… و..، وكل ما يعشقه الصغار كما أظن، لكي أدلف من خلال تلك الأشياء المحببة لهم إلى عالمهم، فأضيف له شيئاً جديداً ربما يستبدلونه بكل تلك الأشياء عندما يكبرون؛ الكتابة.
ولكنني لم أستطع أن أستمر في متاهة الخديعة طويلاً.
عندما اقتربت من حدود الألف كلمة وأنا أكتب، توقفت فجأة. أزحت لوحة المفاتيح من أمامي ثم قرأت ما كتبته عن أفانين الكتابة التي تحول سواد الكرة الأرضية إلى اللون الوردي، فعدت لأظلِّل الكلمات ثم أضغط على أداة القتل القابعة في أقصى يمين لوحة المفاتيح “ديليت”. اختفت الكلمات المبهجة في تلك اللحظة إلى الأبد.
الكتابة ليست سحراً. والكاتب ليس ساحراً. أعني أنها ليست ذلك العالم السحري الجميل الذي نتفنّن، نحن المولعين بها، في تزيينها أمام الآخرين لنبدو أمامهم، ربما، وكأننا الأكثر قدرة على اقتناص اقتراحات الحياة الأجمل من خلالها. قد ننجح في خديعة الكبار، وكثيراً ما فعلها ممن سبقنا إلى الكتابة وخدعنا، لكنني لست واثقة أنني سأفعلها مع الصغار الذين ينبغي أن أوجِّه هذه الرسالة لهم.
وإن فعلتها.. فمن يدري بتفكير هؤلاء الصغار عندما يكبرون ويصبحون قادرين على قراءة رسالتي؟
بأي حجر سيرمونني أو يرمون ما تبقّى مني على هذه الأرض، عقاباً لي على ممارسة الخديعة مع سبق الإصرار والترصد والمجاهرة، ومن دون الاختباء وراء قصة أو قصيدة مثلاً؟
أعرف أن الأبناء عادة يغفرون لأمهاتهم بعض كذباتهن الصغيرة، بل والكبيرة أحياناً، عندما يكبرون.
لكنني لست أمًّا!
لطالما قلت للآخرين إن هذا خياري الذي أصبح قراري لينتهي وكأنه قدري النهائي، وأنه يناسبني تماماً، حتى إنني أتذكر متى اكتشفت أنه يناسبني.
كنت قد انتهيت من إعداد مسودة كتابـي الرابع “مجرد مرآة مستلقية” عندما وقفت عند تلك الدرجة التي تودي بـي إلى ما أصبحت أعبِّر عنه لاحقاً بأنه مهوى الردى. فكرت أن يكون ذلك الكتاب الذي كنت أراجع نسخته التجريبية الأخيرة قبل الطباعة هو البديل عن أن أكون مهيأة للأمومة ربما، فأصبح البديل والمنقذ في اللحظة نفسها.
لا نختار أقدارنا، لكننا نختار كلماتنا ونستطيع ببساطة أن نجعل من تلك الكلمات تبدو وكأنها أقدارنا.. وتلك هي الكتابة. كتابتي على الأقل، والتي لا بد أنني أحاول رسم ملامحها الآن لأزيِّن صورتها لك يا صغيري الذي لم أنجبه وأعرف أنه لن يكبر ولن يقرأ تلك الكلمات أبداً.
هل تغيرنا الكتابة فعلاً؟
هل نتغير بها؟
أم نتغير فيها وحسب؟
تستهوينا حياتنا المرتبة، رغم فوضويتها أحياناً، على الورق. ويغرينا أن تبدو أمام القارئ وكأنها فردوسه المفقود. ندجّجها بالعِبَر والحِكَم التي نفترض أمام ذلك القارئ الضحية أننا استخلصناها من الحياة، فنسهم في خداعه ذلك الخداع الشهي الذي يجعله يتلمس أطراف الأوراق الخضراء فتتندى أصابعه ويفرك جناح فراشة ملونة حطّت للتو على حافة الكرسي القريب، ولعله يغني مع بلبل عابر بين الأسطر فتعبق رائحة غابة استوائية عربشت أغصانها على الجدران بينما يمسك بكتابه بين يديه.
الكتابة تفعل كل هذا فعلاً يا صغيري الغائب للأبد،
تخدعك لأجلك. ترسم لك حياتك المشتهاة وتغويك لإعادة إنتاج المادة الإنسانية الخام والتي خلق الله عليها جدك الأول ضمن سياقات الجنة البعيدة في الزمان الأول والزمان الأخير.
صحيح أنها لن تعيدك لإرث جدك المفقود في فردوس الغواية الأولى، ولكنها على الأقل تذكرك على الدوام به، وتهبك جنان أخرى بديلة في السحر والدهشة والحركة المستمرة نحو الأعلى.
ستقرأ هذا الكلام يا بنيّ، الذي لا أعرفك لأنني لم أنجبك، بعيون صغار حقيقيين لم يكبروا بعد لكنهم على الأقل نجوا من غيابك الأزلي، كما يفترض أنهم نجوا أيضاً من الزلازل، والبراكين، والمباني المتداعية، والبرد المفاجئ في عراء الفقر، والجوع القاتل في فساد الأزمنة والأمكنة والآخرين، والأمراض التي تختارهم بعناية من دون أن يوفّر لهم الكبار ما يوازيها من عناية.. والحروب بأشكالها.
قل لي يا صغيري الذي كبرت في الغياب بعيداً عن عنايتي، كيف بالله عليك يمكن للكتابة أن تنقذك وأصدقاءك الحاضرين والغائبين من تلك الحروب مثلاً؟
كيف لكلمات تستوي على عروش الروح أن تحمي الجسد من شظايا قنبلة عنقودية؟
وكيف لها أن تعيد اللوعة على الورق بإحساس الأمومة المفطورة القلب لحظتها؟
لطالما وقفت أمام أيقونة القلب المفطور( ) في أجهزة الهواتف الذكية لأسمِّيها بقلب الأم. وكثيراً ما استخدمت تلك الأيقونة في رسائلي الهاتفية للتدليل على الأم. وها أنذا الآن أختبئ وراءها لأتقمص ذلك الدور ولو لربع ساعة أكتب فيها رسالتي إلى طفلي الذكي.. الذي سيكبر يوماً وهو يحب القراءة والكتابة تأثراً بأم لم تلده.
طبعاً سيسعدني جداً أنه كبر وتفتحت روحه في حبر الكلام المكتوب، حتى وإن اكتشف أن الكتابة لن تغير العالم كما قد تغيره قنبلة ذرية، وأن الكرة الأرضية ليست مكاناً مناسباً لنمو الصغار مثلاً، بالرغم من أنها تعج بعدد كبير جداً من الشعراء والكتاّب والكتب والمكتبات. صحيح أننا بوجودهم وبوجود ما يكتبونه أصبحنا أكثر قدرة على احتمال بعضنا البعض، لكن عيون الأطفال الدامعة والحزينة والمنطفئة والمفقوئة والميتة ما زالت تلاحقنا لتكشف عجز كل الكلمات عن تصوير لوعتها الحية حتى في مواتها المعذب.
وها هي عينا طفلي الذي لا بد أنه سيشكرني في العدم لأنني لم أساهم في وجوده ضمن سكان الكرة الأرضية تلمعان في وجداني من خلال ملامح أطفال عبرت أسماؤهم بين الكلمات العابرة لتصنع مجدها النضالي في لحظات معينة.
تحاصرني الوجوه وتختلط عليّ في لحظة الكتابة لأختار من بينها ما لا يمكن اختياره.
تحاصرني ذاكرتي بالأسماء فتختلط لتظهر وتغيب دامية أو خائفة أو ميتة. تطل من شقوق تلك الذاكرة أو من فجائع الكلمات المكتوبة عن سنوات الحروب والتهجير والمذابح في كل مكان ومنذ أن عرفت معنى الزمان.
لأطفال فلسطين الركن الأهم في مشهدي المتغير دائماً، لكن الآخرين كثيرون وموجوعون أيضاً وميتون.
في سوريا، وفي مصر وفي اليمن وفي العراق، وفي الخليج والمحيط، وفي العالم البعيد خارج الوطن المتشظي على خريطة العرب أيضاً، وبالقرب مني تماماً.. في وطني حيث أعود من عملي لمنـزلي في الجهراء كل يوم لأصادف طفلاً كان من المحتمل أن يكون هو طفلي الحقيقي جالساً على الرصيف ليبيع ما يتيسر له ويشتري حلمه الكبير بوطن، فكلمة “بدون” لا تبدو له اسماً مناسباً لوطن!
هل تستطيع الكتابة مثلاً يا صغيري القابع هناك في زاوية من زوايا الانتظار أن تمنحك وطناً حقيقياً يحبك ويعترف بك كما تحبه وتعترف به على سبيل المثال؟
لقد خدعتك أيها الطفل الجميل، رغم عينيك الفزعتين، مرة عندما وعدتك كاذبةً أنني سأنجبك. أعرف أنني أقسمت لك على ذلك وأنا أختار اسمك الموعود من جلال التاريخ وبهاء القصائد، لكنني حنثت بقسمي وأخلفت وعدي ببساطة، ولن أفعلها ثانية. لن أخدعك مجدداً فأعدك بجنة طافية على بحر من السعادة ستضمنها لك الكتابة في نهاية خدمتك لها.
فقط سأخبرك بسري الصغير معها؛ اللذة.
أقولها لك وأنا أستعيد كل اللذائذ المذهلة التي منحتها لي الكتابة بكل أشكالها لمجرد أنني أحببتها، وجعلت منها جناحي الذي ساعدني على التحليق بعيداً جداً نحو الأعلى.
كثيراً ما فكرت أن تلك اللذة بالذات هي جنتي الموعودة في ذلك الطرف القصي من وجودي كله على هذه الأرض، ومن الأمومة التي لا أجيد منها سوى أن أكون ذلك القلب المفطور.
(*) كتاب ينقذ طفلاً!