والنيات من غيب القلوب التي تظهر علاماتها أحيانا على صفحات الوجوه، وتتبدّى من بين زلات اللسان. لا نعرفها على وجه الدقة، ولا نتأكد منها على وجه اليقين، لكن هذا لا يمنعنا من الركون إلى ما نسميه الإحساس بها، وبمن تكمن في قيعان قلوبهم من حولنا من أقرباء وأصدقاء وزملاء، أو غيرهم ممن تربطنا بهم علاقة، مهما كان نوعها أو مستواها أو حجمها أو عمرها.
منذ سنوات قليلة ماضية، أصبح لدي اختبار بسيط، أطبقه على كل ما يعتور علاقاتي مع الآخرين، من وقفات معينة تتطلب مني، أحيانا، اتخاذ موقفٍ سريع بشأنها وشأنهم. وغالبا ما تكون النتيجة على المدى البعيد نتيجة مريحة فعلا. في البداية، كنت أتصرف تلقائيا، وعندما يسألني من حولي عن مرجعيتي في اتخاذ ذلك القرار، مثلا، أقف محتارةً، ولا أعرف كيف أفسر الأمر. فمثلا لا أعرف كيف أشرح لهم لماذا قرّرت أن أقطع علاقتي بشكل نهائي وفوري وحازم مع شخصٍ أساء لي أساءة معينة، وأتسامح مع آخر ببساطةٍ مع شخص آخر أقدم على الفعلة نفسها تقريبا. أين العدالة والموضوعية التي أدعيهما في تعاملي مع الآخرين، خصوصا إن كنت أقف منهم على المسافة نفسها من القرابة أو الصداقة أو الزمالة؟ لماذا أتشدّد مع هذا، وأتساهل مع ذاك؟
لاحقا، اكتشفت أن السبب يعود إلى أن الأول سقط في الاختبار، بينما نجح الثاني. هكذا بكل بساطة. ويومها فقط اعتمدت ذلك الاختبار الشخصي مرجعية خاصة لي، ولا أتردّد بنصح الآخرين حولي في اعتماده هم أيضا، أو محاولة اكتشاف اختباراتهم التي تناسبهم على الأقل.
أسميه اختبار النيات، وأعتبره خلاصة تجاربي مع الناس والأيام، على مدى سنوات عمري الماضية بكل ما فيها من نجاحاتٍ وإخفاقاتٍ في علاقاتي وصداقاتي، وبكل ما واجهته من خذلانٍ ممن لم أتوقعه منهم، وما خلفه ذلك من مراراتٍ لا شك أنني عانيت منها طويلا، قبل أن أتخلص منها، إن فعلت ذلك فعلا، فبعض المرارات ما زلت أستشعرها عالقة في لساني، على الرغم مما تذوقته بعدها من أحلى لذائذ الدنيا.
أصبح كل شيء في حياتي، بعد تعودي على اختبار النيات، قابلا لأن أمرّره عليه، حتى أنني اكتسبت مهارة استخدامه بشكل سريع جدا، لا أكاد أتوقف عنده أحيانا، بحيث أصبح من طبائع تصرفاتي اليومية. أرحت واسترحت، وصرت أتخفف ممن حولي بطريقةٍ لا أقول إنها مريحة جدا، لكنها على الأقل لم تعد ترهق روحي، وتسبب لي الإحراجات، كلما اتخذت موقفا ما تجاه الآخرين مجموعات أو فرادى. بسرعة رهيبة، وبارتياح معقول، أصبحت أتخلص من علاقات ومواقف وأشخاص، حتى لو كانوا من أعز الناس في السابق، بمجرد فشلهم في عبور ذلك الاختبار الذي أخضعهم له من دون أن يعرفوا به. هو اختبار خاص به، على الرغم من أنه يتعلق بهم، وأنا أجرّه، على الرغم من أن نتائجه تحدد مصائرهم في ما تبقى من حياتي.
يتلخص هذا الاختبار بسؤال واحد بسيط حد السذاجة، أوجهه لنفسي، عند كل موقف مرير أجدني في خضمه، أو إساءة موجهة ضدي من شخصٍ ما: هذا الشخص الذي جرح مشاعري وأهانني الآن، هل كان ينوي جرح مشاعري وإهانتي فعلا، أم أنه فعلها وهو لا يعلم أنها إهانة وجرح؟
تحدّد الإجابة موقفي منه، وبالتالي أغضب أحيانا من أشخاصٍ، على الرغم من أنهم لم يرتكبوا جرما كبيرا بحقي، وأتسامح مع آخرين ارتكبوا ما يشبه الكبائر تجاهي.. معياري نياتهم وإحساسي بها فقط، وهي تكفي لحسن الحظ.
(العربي الجديد 22 فبراير 2018)