أنوار فاهد مخلد(*)/
كان ينظر إليها، وهي تُرتب الكتب على الرف، حائراً هل يسأل أم يكتم السؤال الذي دار في قلبه أياماً. أخذت تمسح الرف وتضع كتاباً تلو الآخر، حتى وصلت لكتاب عُنوانه “تاريخ الكويت” وهي تحملهُ بيديها وتمسحه برفق. رفعت الكتاب لتضعه في مكانه، فسألها بصوت خافت: “خالتي، هل لي بسؤال؟”
استدارت لتنظر من صاحب هذا الصوت، فرأت ملامح الحيرة على وجهه، ابتسمت ابتسامة المعلمة التي تعلم تماماً شغف صاحب السؤال، فأخبرته كعادتها: “إن كنت تريد معلومةً، فالكتب ومواقع البحث الإلكترونية ستجيب على كل ما تريد”، ازدادت ابتسامة الغيظ اللطيفة على وجهها تنتظر منه رداً مُقنعاً.
كانت تلك الإجابة، هي إجابتها الدائمة، لكل من يسألها من أطفال وشباب العائلة، سعياً منها أن تجعلهم قادرين على تعلم طرق البحث الصحيحة وتعلم اختيار المعلومات في بحر الكتب ومواقع البحث، فكل شيء متوفر يسهل بحثه في زمن الإنترنت، وهم قادة هذا الميدان التكنولوجي.
نظرت إليه تنتظر إجابةً مُقنعة، لكن حيرته لم تزل، فقالت: “هل هناك سؤال لم تجد له جواباً”، نظر إليها وقال: “نعم، وهو ما أريد أن أسأله”، فقالت بكل حماس: “ممتاز، وما هو هذا السؤال؟” والشوق في عينيها، فقال متردداً: ” إننا درسنا كثيراً في المدرسة عن الحروب وما حصل سابقاً لنا وللشعوب، لكنني لم أجد درساً واحداً من دروس المدرسة، يُعلمنا عن أنواع الأوبئة ومخاطرها، كما نتعلمه الآن في كل مكان مع وباء الجديد؟ ”
نظرت إليه بصمت، لا تعرف ماذا تُجيب مباشرة على سؤال جاء من طالب في المرحلة الثانوية، يتساءل عن دور مناهج التربية في إحاطة كافة جوانب مخاطر الحياة، منها الأوبئة! أخذت تنهيدةً عميقة، ثم قالت: ” دائماً، أخبركم ليس العلم محصوراً في المدارس فحسب..”، نظر إليها بنظرة حاسمة، وقال: “لكن أليس لنا حق في معرفة التاريخ والاستفادة منه، أليس لنا الحق في توقع ما هو غير متوقع ونستعد له؟ لقد مر أجدادنا بوباء الطاعون ولم نعلم منه سوى تاريخ حدوثه؟ لماذا لا نتعلم سُبل الوقاية التي نتعلمها الآن عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفاز؟ حتى أن التاريخ الإسلامي حافل بوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوباء وطرق الوقاية؟ ”
كانت تنظر إليه تنصت لكل كلمة تُقال، تنظر لجيل واعٍ مُثقف مُتشوق للمعرفة والتعلم، لشاب لم يتجاوز الخامسة عشر، يسأل أسئلة عميقة في قواعد إرساء المناهج العامة بشكل صحيح، لتثقيف الأجيال بالثقافة العامة بكامل جوانبها، إحاطة شاملة تجعل الأجيال مستعدة للمستقبل، كانت تنظر لجيل يؤمن بالتخطيط القائم على التنبؤ بأحداث المستقبل لا أحداث الماضي وسردها فحسب، بل جيل يُؤمن بقدرته على “صناعة المستقبل” في الاستعداد ووضع التصورات غير المتوقعة.
تساؤلات كثيرة مثل هذه ستجعل ميدان التربية منذ هذه اللحظة، ميداناً حافلاً بالتغيير الجذري، فلم تعد الخطط الحالية والمبنية على أحداث الماضي ذات جدوى مع مواجهة ما هو غير متوقع، بل أصبح ميداناً مُختلفاً، ينبغي أن يضع الخطط ومناهج قادرة على تعلم المستقبل، تعلمك ما هو غير متوقع! تستفيد من خبرات الجيل الجديد ومشاركته في صناعة القرار! “صناعة المستقبل” ينبغي أن يكون هو منهج التربية القادم، ليواكب الجيل الجديد الذي أصبح سابقاً لمناهجه!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)قسم الإدارة والتخطيط التربوي
كلية التربية – جامعة الكويت
مدينة صباح السالم الجامعية