الرئيسية / مقالات سعدية مفرح / النوخذة الأخير.. والطريق إلى صور

النوخذة الأخير.. والطريق إلى صور

على الرغم من كل ما كُتب عن علاقة الخليجيين بالبحر قديماً، بقيت تلك العلاقة غامضة لمن لم يعش على هامش المياه التي لم تكن بيئة العمل ومصدر الرزق وحسب، بل العنوان الأبرز للحياة في تاريخ المنطقة كلها، خصوصا قبل ظهور النفط. وفي رحلتي قبل أسبوعين إلى مدينة صور، البوابة الشرقية لسلطنة عُمان، وإحدى أهم مدنها التاريخية، باعتبارها ملتقى شهيرا للطرق البحرية منذ القدم، أسعدني الحظ بالحصول على كتاب صدر قبل شهور لكاتب عُماني، بعنوان “الطريق إلى صور”. أصبح الكتاب، بعد الانتهاء من قراءة صفحاته المائتين، دليلي التاريخي الأثير للمدينة التي كنت قد حظيت بزيارتها قبل عامين، لأعود إليها هذه المرة بين سطور كتابٍ رشيقٍ وبديعٍ في لغته وموضوعه، وفي عنوانه الكبير وعناوينه الداخلية، وأسئلته المحرّضة على مزيد من السحر. أما المقتبسات الصغيرة التي اختارها المؤلف بعنايةٍ شديدة، وأناقةٍ لافتة، مقدّماتٍ موحيةً لعناوينه الداخلية، فقد أثرت مادة الكتاب بمزيدٍ من الغنى الفني، المتكئ على ذائقةٍ رفيعة، وخبرة شديدة التنوع في أحوال البلاد والعباد.
مؤلف “الطريق إلى صور”، خالد بن علي المخيني، باحث عريق في التراث البحري، وكل ما يتعلق بتكوين مدينته الغافية على الساحل الشرقي لعُمان. ومع أنه، كما يبدو من أسلوبه في تدوين يوميات مدينته في كتابه، عاشقٌ لرائحة البحر ومدنفٌ بحب التاريخ، إلا أنه مع هذا ينحاز انحيازا بيّناً لعبق القبيلة الكبيرة التي كونت أساسيات الوجود الديموغرافي لتلك المدينة، ولمعطيات الجغرافيا بكل تنويعاتها، فيتّخذها، في مباحث كثيرة في الكتاب، دليلا على صدق فرضياته المغايرة لسائد تاريخ المدينة الساحرة، وما شاع من علائق خاصة لها ببحرها الشاسع في مدى التاريخ وأبعاد الجغرافيا.
وعبر فصول الكتاب الأربعة، يثير المؤلف إشكالات عديدة بشأن تاريخ مدينته وعلاقتها بقبيلة الجنبة، ثم علاقتهما معا بالبحر، من خلال محاولة الإجابة على بعض الأسئلة المعلقة على هامش من سحر المراجع والمصادر التي يمكن أن تكون أساسا بحثيا معتدّا به! ولكن محاولات المؤلف الحثيثة أنتجت، كما بدا لي، مزيدا من الأسئلة، خصوصا في الفصل الأول الذي عنونه المخيني “البدايات”، ففي تلك البدايات دهشة محتشدة بالإشكالات التي ساعد أسلوب الكاتب البديع والمشحون بطاقةٍ عاطفيةٍ خلاقة على تقديمه للقارئ النزق بسلاسةٍ تليق بعشّاق الأنواء الملوّحين دائما بتحيا الوداع للمدن الساحلية!
ولأنني لست من هواة تشجيع القراء الكسالى على قراءة ملخصات الكتب الجميلة، لا أريد تفصيل مضمون الكتاب بأكثر مما ورد في غلافه الأخير من تشويق موجز عن “فرضية تاريخية مغايرة تربط قبيلة الجنبة العمانية بحضارة أرض اللبان في ظفار، في محاولة لردم الفجوة التاريخية بين مرحلة تواجد الفينيقيين في المنطقة قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهجرة جزء كبير من القبيلة من المنطقة الوسطى إلى المنطقة الشرقية في عُمان، وتحديداً إلى صور، قبل حوالي أربعة قرون. كما يناقش فكرة تحول القبيلة من النمط الرعوي إلى ممارسة النشاط البحري التجاري والتفوق فيه في فترة وجيزة من الزمن، حولتهم إلى مرتادي بحار وصناع للسفن من الطراز الأول”.
أنهيت قراءة “الطريق إلى صور” في ساعتين ونصف تقريبا، وأنا في طريقي من تلك المدينة التي عشقتها قبل أن أراها وأعيش بعض أيامها القليلة إلى العاصمة مسقط. وكان من المناسب جدا لي أني بدأت الرحلة المحفوفة بشواهد التاريخ العُماني العريق، وفقا لاقتراح ابن صور وشاعرها الوفي، عبد الله العريمي، من فتنة بحرية شامخة على ساحل المدينة بهيئة سفينةٍ عنوانها “فتح الخير”، وهي آخر ما تبقى من أسطول صور البحري التاريخي العظيم. عندما فتحت الصفحة الأولى من الكتاب، تحت ظلال ذلك التراث الموغل في وجوديته، بدا لي المؤلف وكأنه “النوخذة الأخير” لذلك الأسطول الذائب في زبد البحر وركام التاريخ، محاولا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من السحر، في الطريق إلى صور عبر الكتابة وحسب.

25 يوليو 2019

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *