فهد العودة/
9 – مارس
الساعة الحادية عشرة توترًا.
هبطت الطائرة عائدًا من دبي إلى الكويت
وأنا عائدٌ إلى البيت أستمع للراديو حتى تتبدد وحشة المسافة..
لا أسمع إلا أخبار الموت الجماعي الذي يعيشه العالم
بسبب فيروس مجهول الوطن والهوية والمنشأ،
كل ما تعرفه أنك كنت مستهترًا ومستهزئًا به، وتقول في نفسك:
هذه مزحة بيولوجية! إنسانٌ أكل خفاشًا فصار الوباء!
أو ربما تكون حربًا تجارية بين دولتَين عظيمتَين أيّهما يحكم العالم!
مثل أي شخص سمع عن هذا الوباء الخفيّ..
الذي يأتي على هيئة موت.
تفكّر في أولئك الذين سوف تراهم وتحدّثهم عن لعنة الكورونا
التي أرعبت العالم وحوّلت البشر إلى أداة قتل.
لعنة هذا الفيروس أنه قد يجعلك تقتل أقرب الناس إليك
دون قصد، تعيش بقية عمرك تلعن الظلام في ندم وتعاسة.
ومن طول الطريق أحسب أعمدة الإنارة..
واحد.. خمسة.. تسعون
تصل إلى البيت.. بيتك،
وطريقك مفروش بالضحكات لأن أمك تركت الباب مواربًا لأجلك..
وتطلُّ منه في كل مرة تسمع صوتًا آتيًا من الخارج..
تفتح الباب ويدفعك شوقكَ إلى عناقٍ لا يشبهه عناق.
تدخل ويدخل معكَ كل شيء..
جسدك المحموم، وعيناك الذابلتان، وحقيبتك وكتبك،
والهواء والشيطان وأفكارك وأشياء ليست لك، مثل حب قديم
يقاوم الحياة.. تسعفه بالدعاء والرجاء أن يعود ولكنه لا يعود..
ولا تعلم إن كان الوباء رفيقك.
كلّ ما في الأمر.. أنك تنظر إلى وجه أمك وكأنك تنظر إلى الجنة..
تقبّل رأسها.. تعانقها.. ثم تودّعها وتنام!
10 – مارس
مرّ هذا اليوم مثل أيامي المتشابهة
أهلي، أصدقائي، أبناءُ الجيران، وآخرون جمعتني بهم الصدفة
ومواعيد عمل مع غُرباء لا أعرفهم ويعرفونني!
11 – مارس الساعة الثالثة رعبًا.
فززتُ من نومي من حلمِ أفزعني، تغصّ حنجرتي بشيء
يسدُّ مرور الهواء، كأن يدًا تُطوّق رقبتي.
نوبات سعال مستمرة.
أستغفر ربي.. أصلّي خوفًا من موت
يحدّق بي من كل الجهات!
أمي.. يا ربي أمي
كبيرة، وتاريخ مرضي متعب ومخيف..
يا ربي أمي.. لا تكن ضحية ابنها.
ما أسوأ الحياة حين يكون مصدر الأذى
من أقرب الناس إليك.
الساعة: الرابعة
أصلُ إلى المستشفى.. لست مريضًا، عاديًا بل استثنائيًا..
قنبلة مدوية.. موت يَكشف عن نفسه.. جارحٌ يكفخ جناحيه
ينظر إلى الناس على أنهم فُروسُ.
أنظر إلى الشاشة أترقّب دوري..
كانت لحظة ثقيلة وكأنني أحمل الأرض فوق قلبي..
وصل دوري وكأنه موتي.
أدخل على الطبيب..
أشرح له كل الأعراض الغريبة، والتي كنت أتوهم بها.
أخبرني الطبيب ألا أفكر، وأردف: حرارتك طبيعية.. أنت
توسوس كثيرًا.. اذهب، هناك من هم أسوأ منك.
أعود إلى البيت محملاً بالخيبات واليأس والخوف والظلام الداخلي
والموت الذي يدلني ولا أدله، أعيش كأنني أداة قتل متنقلة،
أرى نفسي في شريط سينمائي.. رجل قتل أمه وأخوته وأصدقاءه
والغرباء الذين لا يعرفهم ويعرفونه.. وأبناء الجيران وعابري الطريق
وبائعي الكتب والمساكين.. يمرّ اليوم مثل سكين حاد.
وحيدًا وكئيبًا، منهارًا وباكيًا، لا أعرف كيف أقول لأولئك الذين أحبّهم أنني قد أكون سببًا كبيرًا بموتهم.
أنظر إلى الساعة.. الدقيقة تشبه اليوم، والساعة كأنها شهر.
نمت بعدما تشبعني السهر والتعب..
أفزُّ بعد ساعات بائسًا ومحمومًا.. بدأ النظر يضعف..
عينٌ ذابلةٌ وأخرى مطفأة تشبه انطفاء العالم اليوم.
أبحث عن بصيص أمل يشعل قنديل الحياة في داخلي،
ولكنه الوسواس يكبّل عقلي.
بعد مرور يومين من الوحدة المطبقة،
تسألني أمي عن سبب اختفائي غير المبرّر..
لا أعرف كيف أجيبها.. ولكنني كنت أكذب ببراعة
لم أوتها في حياتي قط.. ولكنها صدّقتني مثل أمٍّ تثق بابنها.
قرّرت فجأة أن أذهب إلى مستشفى متخصص في هذا الفيروس
دخلت دون مقدمات.. لقد أخبروني أن آتي إليكم بسرعة وأجري فحص
الفيروس؛ فلقد عدت من السفر (دون أن أذكر اسم الدولة).
أدخلني إلى غرفة الفحص وفحصني دون أي سؤال آخر!
كنت مصعوقًا من سرعة تجاوبهم وخوفهم من أني كنت مسافرًا!
كان الإنسان على مر العصور
يتباهى بالسفر، ويكون محظوظًا بنظر الآخرين
ولكنها الأيام والحياة تغير ما لا تتوقعه في طرفة عين!
عندما انتهيت من الفحص عدت إلى البيت وينمو أملٌ في صدري..
لم أشعر به منذ أيام عودتي من السفر.
عشت بين أهلي وأنا في الحجر المنزلي.. خالطتهم لأنني منذ عودتي
وأنا معهم، فلا فرق مهما كانت النتيجة!
مرّت أيام ولم يتصل بي أحد..
كان يقول لي الطبيب: إن كنت مصابًا، سوف يأتيك الإسعاف
والفريق الطبي دون أن ينتظروك..
مرّت أكثر من اثنين وسبعين ساعة ولم يتصل بي أحد.
ذهبت إليهم أسأل عن نتيجة فحصي.. ولكن لم تكن لديهم نتيجة!
يقول الطبيب: سوف نعيد الفحص لأن النتيجة لم تظهر (لا سلبية ولا إيجابية).
كأن نبضَ قلبي أخذ يركض في متاهات جديدة وضيقة.
ما أسوأ أن يعيش الإنسان دون أن يعرف مصيره.
أعدت الفحص مرة أخرى..
وفي يومين ظهرت النتيجة.. كانت سليمة..
لا أذكر بدقة شعوري في تلك اللحظة،
ولكن ما أعرفه أنني عدت إلى أمي وعانقتها وكأنني لم أرها منذ سنين طويلة.
عرفت أن قيمة الآخرين لا تقلّ قيمة عني،
تعلمت كثيرًا من هذه التجربة المخفية،
تعلمت أن الحياة قصيرة جدًا، وأننا نعيش وسط موت يحدّق بنا
في كل لحظة.علّمتني الكورونا أن الإنسان قد يموت قبل أوانه لسبب لم يتوقعه أبدًا.
كان شعور الموت غريبًا، لأنك في تعداد الموتى الذين سوف يكون موتهم استثنائيًا تاريخيًا لا يتكرر في الحياة كثيرًا..
أن تموت في حادث سير، أو رصاصة من شخص مجهول،
أو طعنة سكين، أو دون سبب؛ فهذا أمر طبيعي..
أما أن تموت بسبب شخص لا تعرفه ولم يقصد أن يضعك في تعداد الموتى.. فهذا هو الأمر الاستثنائي.
علّمتني الكورونا،
أن تلك الدول التي يدّعون أنها علمتنا الحضارة والثقافة والتطور
والإنسانية هي أول من تخلّى عن الإنسان، وأنهم يدعون التحضر والثقافة ولا يُطبّقونها، وعلّمتني أن “منظمة حقوق الإنسان”
هي أول من يتخلّى عن الإنسان.
تعلّمت أن دولنا الصغيرة عظيمة؛ لم تتركنا وسط هذا الموت المنتشر
في وقت كانت أعظم الدول تبيع مواطنيها في سوق الموت بالعلن.
تعلّمت من العزلة
أن الوحدة تهذيب للنفس وبناء للعقل
وأن الفراغ يخبرك من هم أحبابك
الذين ينسونك أو يتذكرونك وأنت تغطُّ في صمت وغياب.
تعلّمت أنَّ الحياة ليس شرطًا تعطي من يعطيها
بل يمكنك أن تمنح الحياة كل ما تملك دون أن يكون هناك مُقابل،
لأن العطاء لا يعني التبادل أحيانًا..
العطاء هو العطاء دون أي شروط مقرونة به.
علمتني العزلة
كم نحن أنانيون وعديمو رحمة لأننا لم نعرف أهلنا
بالشكل الصحيح، ولم نكتشفهم كما يجب،
ولم نعرف ما يحبون ويكرهون وما ينقصهم وما يحتاجونه
كنّا نفكر في أنفسنا فقط وبأولئك الذين نحبهم ويتركوننا في أول مشكلة نقع بها.
علمتني العزلة
أن الحب الذي يشع بين حبيبين لا يحتاج إلى وثيقة دم
ولا يخضع إلى مفاهيم أو معايير اجتماعية
وأي تدخل من القبيلة يعد انتهاكًا لحقوق الإنسان.
فقط الحب هو الحب لا يخضع لأي أسباب أو شروط.
علّمتني العزلة
أنَّ القراءة تنقذك من الملل والجهل والوحدة وأصدقاء السوء..
وأحيانًا من الموت!