الرئيسية / مقالات سعدية مفرح / تلك الصحراء المغوية!

تلك الصحراء المغوية!

يظن الذي لا يعرف الصحراء أنها رمال وحصى، وأنها فضاء خال من كل حياة، وأنها أرض وسماء وطقس قائظ بالضرورة.

لكن الذي يعرفها يرى أنها شيء آخر تماما، ويحاول أن يقنع الآخر أنها مليئة بالكثير مما يسهل ويصعب اكتشافه من الحيوات المتنوعة، وأن لها جمالها الأخاذ، وهو جمال نسبي ككل جمال وككل قيمة.

جمالية الصحراء الكبرى تكمن في أنها بلا حدود، واسعة ومنفتحة وقابلة دائما لأن تكون أوسع وأكثر انفتاحا مما يبدو لنا لأول وهلة، أو لأول إطلالة عليها.

وصحرائي أنا مترامية الأطراف إلى درجة أنني أنمحي فيها وأتلاشى أحيانا، قبل أن أعود من جديد لأنبعث من قلب الرمل.

أنتمي لجذور صحراوية، ورغم أنني أعيش الآن في المدينة، وأنحاز لقيم المدينة، وأعمل وفقاً لاشتراطاتها وأستفيد من عطاياها الحديثة، إلا أن هذا لا يجعلني أنسى فترة من فترات حياتي عشتها بشكل واقعي في الصحراء وفي خيمة أو بيت مصنوع من الشعر الأسود فعلا! ولعل في هذا  تناقضاً وهمياً يراه الآخرون ولا أراه.

حسناً.. عيشي في المدينة لا يجعلني أنسى أنني كائن صحراوي بحكم التكوين الأوّلي على الأقل. لكن الصحراء، بكل معانيها وصورها، صارت الآن بالنسبة لي مرجعية شعرية لا نهائية، ولي فيها مآرب أخرى إنسانية وجمالية ونفسية أيضاً. وهي مآرب لا تستنفد مهما استفدت منها، ربما لأنها  احتلت موقعا أثيراً من الذاكرة، وبقيت هناك بانتظار ما يحركها ذات يوم، ذات قصيدة، ذات ذكرى عائلية بعيدة، وذات تاريخ موروث.

الغريب أن صحراءنا العربية غير مكتشفة من قبل الشاعر الحديث. فما زال هذا الشاعر يقف على أطرافها متهيباً من التوغل في عمقها، خوفاً من رمالها المتحركة، خاصة وأنه يضرب في صحراء الشعر بلا بوصلة ولا خارطة طريق.

والغريب أيضاً أن كثيراً من الشعراء يريدون اكتشاف تلك الصحارى بواسطة تقنية الجي بي أس، وينتظرون من الأقمار الصناعية أن ترسم لهم خارطة الطريق. أما أنا فأزعم أن قلبي دليلي، وأنا أستفتيه كلما يممتُ وجهي شطر الصحراء. أما ظمأها ، بكل دلالاته، فأحيانا أقاومه بالشعر وإصراري على القصيدة، وأحيانا أقاومه بقدراتي المتناسلة من بعضها البعض على الحب، وأحيانا أقاومه بمجرد التجاهل والنسيان.

هذا لا يعني أنني أنتصر دائماً،  ففي كثير من الأحيان أتحول إلى يباس كامل وأنا ما زلت في بداية المعركة، وربما أجدني في قلب الربع الخالي من دون قلبي، فأضيع بلا دليل. لكنني غالباً لحسن الحظ أصادف عيون الماء العذبة تتفجر تحت قدميّ من دون جهد يذكر.

صدف الصحراء مغوية ومقدسة.

وأنا أعوّلُ عليها كثيراً اتكاءً على التجربة وتراكم الخبرات في محيط جغرافيتي. وهذا يكفي!

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *