الرئيسية / ماء الحوار / حارس اللغة العربية محمود شاكر في لقاء تأخر نشره 18 عامًا

حارس اللغة العربية محمود شاكر في لقاء تأخر نشره 18 عامًا

وننشره في الذكرى العاشرة لرحيله
حارس اللغة العربية محمود شاكر: يحيى حقي يستحق أضعاف أضعاف جائزة نوبل
  • أنا شريف النسب وصعيدي شرقي
  • تلامذتي من الكويت لم يتخلوا عني طوال فترة سجني

الاول من نوفمبر 2007/ سعدية مفرح:

لهذا اللقاء قصة غريبة، وله تاريخ بعيد، أحكي القصة لأحتفي بالتاريخ، وأتذكر التاريخ لأعود إلى تفاصيل القصة. أما التاريخ فيعود إلى شهر ديسمبر من عام 1989، حيث كانت الكويت تحتفي بزيارة شيخ جليل من شيوخ اللغة العربية هو العلامة محمود شاكر، أما القصة فتبدأ مع حماستي لإجراء لقاء صحفي معه، لأنه لا يستسيغ إجراء اللقاءات الصحفية، فلم يوافق عندما طلبت منه ذلك للمرة الأولى، لكنه أمام إلحاحي الشديد وافق بحنو أبوي على رغبة صحفية شابة، آنذاك، مازالت تحبو على بلاط صاحبة الجلالة، إلا أنه اشترط علي شرطين، أما الأول، فأن أقرأ له بعض كتبه على الأقل قبل إجراء ذلك اللقاء، فأخبرته أنني كنت قد قرأت بالفعل سفره العظيم عن المتنبي، بالإضافة إلى كتاب أباطيل وأسمار، فقال إن هذا يكفي، أما الشرط الثاني، فهو أن اختار موضوعًا واحدًا فقط كي يدور الحوار حوله، فاخترت أن يدور حديثنا حول صديقه الأثير يحيى حقي وعلاقته به، خاصة وأنني سبق وأن أجريت لقاء مع حقي تحدث فيه باستفاضة عن محمود شاكر.

وما إن سمع شاكر اسم حقي حتى تهللت أساريره ولاحت ابتسامته، التي ظلت عصية طوال الوقت، سألني: أنت فعلا أجريت حوارًا مع حقي؟ قلت: نعم ونشرته قبل شهور عدة في جريدة الوطن الكويتية. عندها قام من مكانه ليحضر نسخة من كتابه الشعري «القوس العذراء» قدمها لي كمكافأة.

أعددت جهاز التسجيل، وبدأ الحوار الذي بدا وكأنه من طرف واحد خاصة وأن الحديث ظل دائمًا يدور حول يحيى حقي كما اشترط، وعدته عندما انتهينا أن أفرغ شريط التسجيل على الورق ليراجعه قبل النشر، لكنه لم ير داعيًا لذلك، مما جعلني أتمهل في أداء المهمة. وعندما قررت القيام بها ضاع شريط الكاسيت، ببساطة شديدة ضاع بين ركام من الورق والأشرطة والأشياء التي يزدحم بها مكتبي آنذاك، ضاع تمامًا حتى فقدت الأمل في العثور عليه. لكنني وجدته أخيرًا، أعني بعد مرور 18 عامًا على إجراء الحوار، وبعد مرر عشر سنوات على رحيل محمود شاكر، وجدته لأجد معه جزءًا من ذكرياتي القديمة وحكايتي مع الشيخ الجليل والذي يحلو لي أن أسمّيه حارس اللغة العربية منذ أن سمعت شقيقي يصفه بذلك تبجيلاً له وإعجابًا بكتاباته.

وقد استحق محمود شاكر المولود في القاهرة عام 1909 هذا اللقب عن جدارة بفضل جهوده الرائعة في خدمة اللغة العربية ليس باعتباره كان عضوًا في مجمعها اللغوي في القاهرة وحسب، بل أيضًا باعتباره أحد أهم محققي التراث العربي على الإطلاق. وقد عرف شيخ المحققين بمعاركه الأدبية واللغوية مع نفر من أبرز الوجوه الثقافية في عالمنا العربي، فخلال دراسته في كلية الآداب في جامعة القاهرة في عشرينيات القرن العشرين اختلف محمود شاكر مع أستاذه طه حسين بسبب آراء الأخير التي أوردها في كتابه الشهير «في الشعر الجاهلي» حول انتحال الشعر الجاهلي، وقد أدى ذلك الخلاف المرير بين التلميذ وأستاذه إلى أن يترك شاكر الجامعة دون الحصول على شهادة جامعية. لكن هذا لم يمنعه من العكوف على تحقيق الكثير من كتب التراث حتى بلغ على هذا الصعيد شأوا كبيرًا.

ويعد ديوان المتنبي أشهر ما حقق شاكر، حيث أعد له مقدمة مطوّلة نشرت فيما بعد في كتاب منفصل بعنوان «الطريق إلى ثقافتنا». وكانت لشاكر معركة فكرية أخرى مع لويس عوض في الخمسينيات حول كتاب «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري.

وقد نال محمود شاكر قبل أن يرحل في الثامن من أغسطس لعام 1997، جائزة الدولة التقديرية في مصر، بالإضافة إلى جائزة الملك فيصل العالمية.

وهنا تفاصيل اللقاء معه الذي أجري يوم التاسع والعشرين من أغسطس عام 1989 في الكويت:

 

*مادام الحديث سيكون عن يحيى حقي حصرًا، هل لنا أن نعرف كيف بدأت علاقتك المميزة به؟

– كان لي صديق يعمل في وزارة الخارجية، وهو متخرج في قسم الفلسفة في العام نفسه الذي تخرج فيه عبدالرحمن بدوي، واسمه عثمان عسل، وقد تعرف عثمان هذا على يحيى حقي الشاب الآتي من أوربا، والذي تردد على مكتبة الوزارة، فأحبه عثمان عسل حبًا شديدًا، وكان عثمان لا ينقطع عن زيارتي، كان يزورني صباحًا ومساءً وليلا. وذات يوم جاءني عثمان قائلاً: «فيه واحد كويس قوي، عاوزك تعرفه»، فقلت له: «اسمه إيه؟»، قال: «اسمه يحيى حقي»، وأردف: «أرجو أن تكون رفيقًا به».

وأيامها كنت أعيش وحدي في البيت فتعرفت عليه ووجدته مؤدبًا رقيًا يكلمني باحترام شديد وكأنه خائف. جلس معي لمدة أربع ساعات متواصلة قبل أن يستأذن للانصراف، فقلت له: إما أن تأتي بعد ذلك أو لا تأتي أبدًا».

عشر سنوات كاملة

*هل كان قد قرأ لك شيئًَا قبل أن يراك؟

– لا أظن.. لقد تعرف بي عن طريق كلام عثمان عسل.

*وهل كان ليحيى حقي أي إنتاج أدبي حينها؟

– نعم.. لقد كان لديه إنتاج قليل في القصة.

*هل كنت كاتبًا معروفًا؟

– نعم… لقد كنت أنشر كتاباتي في مجلة المقتطف، وفي مجلة المقطم أحيانًا، وفي صحف أخرى، ولكن حقي لم يكن متابعًا لما أنشره.

*نعود للحديث عن كيفية توطد علاقتك به بعد ذلك.

– في اليوم الثالث للقاء الأول، جاء يحيى وحده، وبات ليلته عندي، ولم يخرج من بيتي منذ تلك اللحظة ولمدة عشر سنوات كاملة بعدها!! لقد ترك أمه وإخوته وأقاربه وعاش معي في بيتي طوال تلك المدة.

*تعني أنه أقام عندك إقامة كاملة؟

– نعم.. كان ينام ويأكل ويشرب ويخرج ويعود، و«زي أي واحد بيحب واحدة.. ينزل الصبح ويروح لوزارة الخارجية حيث يعمل ويطلبني بالتلفون من هناك بعد نصف ساعة، أو أنا أطلبه وهكذا!».

*هل كان يعرض ما يكتبه عليك؟

– نعم.. كان يعرض علي كل كتاباته.

*وماذا كان رأيك فيها؟

– يعني.. في البداية قلت له: «يا يحيى هذه ليست لغة عربية، صحيح كلام فصيح ولكن ليس لغة عربية، اللغة العربية شيء آخر».

*وماذا بعد ذلك؟

– قبل أن أكمل، أقول إنني كنت قد هاجرت من مصر سنة 1928 إلى الحجاز حيث أقمت هناك، وهو في ذلك الوقت أيضًا كان مقيمًا في الحجاز، في جدة تحديدًا. لقد أقمت أنا هناك سنة 1928 وجزءًا كبيرًا من سنة 1929، وهو كان مقيمًا هناك طوال سنة 1929 حيث مقر عمله في السفارة المصرية، ولكننا مع هذا لم نلتق أبدًا، لأنني لم أدخل سفارة مصر هناك قط، ولم أدخلها هنا في الكويت، ولم أدخلها في أي مكان كنت فيه في يوم من الأيام. بعد ذلك عندما تعرفت عليه قال لي «كأننا التقينا في الحجاز في ذلك الوقت»، لأننا فعلاً كنا في بلد واحد.

هذه «الحاجات» فيها نوع من الشاعرية أيضًا، فقد أحس إحساسًا شاعريًا أننا التقينا في مكان واحد دون أن نتعارف، ثم التقينا مرة واحدة وتعارفنا مرة واحدة.

*هل كان يأخذ بملاحظاتك النقدية حول كتاباته؟

– كان حقي أحسن الناس استماعًا، ومن الصفات العظيمة أن يحسن الرجل الاستماع.

*وماذا حدث بعد ذلك؟

– لاشيء. ظلت الأمور كما هي، لكن وجوده معي أحدث شيئًا آخر، فقد كان لي أصدقاء على رأسهم محمود حسن إسماعيل، وإبراهيم صبري، وهو شاعر تركي كبير وهو ابن الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام الذي فارق تركيا، وحكم عليه وعلى أبيه بالإعدام من قبل مصطفى كمال أتاتورك. لقد كان إبراهيم هذا شخصية تركية، يبدو فاره القوام وذا حماسة في القلب، بالإضافة إلى عثمان عسل ومحمد لطفي جمعة، وهو محام كبير جدًا بل من المحامين المقتدرين، وقاض من القضاة المهمين، مع تشتت في نفسه، فقد كان هناك شيء من الشعر في نفسه لا يحس به، وكان معنا صديق آخر اسمه.. اسمه.

*لعله عبدالرحمن بدوي؟

– لا.. لا.. «سيبك منه بدوي دا كان ثقيل الدم»، لكنه كان صديقًا أعرفه منذ أن كان طالبًا في السنة الأولى في الجامعة سنة 1936 عندما كان فتى آتيًا من الريف.

*والعقاد؟

– لا.. العقاد تعرفنا عليه بعد الأربعين، ربما سنة 1944، وفي ذلك الوقت كتبت قصيدة نانا.

*ومَن نانا هذه؟

– نانا فتاة كانت تسكن في الجوار، وكانت أمها مالطية متزوجة من أرمني، لقد كانت جميلة وخفيفة الدم ومعتزة بنفسها، وزوجها كان نكتة!! «كان واد خايب يعني»!!

عملي قراءة الشعر

*وماذا كنتم تعملون في الاجتماعات التي تتم في بيتك؟

– بطبيعة الحال، أنا عملي هو قراءة الشعر في بيتي طوال عمري، وليس مثل الآن، يعني مع اشتغالي بأشياء أخرى كثيرة. بل إنني لم أترك الشعر إلا من أجل محمود حسن إسماعيل، بعد سنين يعني.

*لماذا؟

– تركت الشعر ليقول هو الشعر، وليقوم بمهمة الشعر، فمحمود حسن إسماعيل شاعر ضخم.

*نعود إلى موضوعنا الأساسي… يحيى حقي كيف دخل في هذا الجو وتأقلم معه؟

– دخل يحيى في هذا الجو شيئًا فشيئًا، كان حسن الاستماع، وكان هذا من فضائله، لقد كان الشعر الجاهلي والأموي والعباسي لا يألفه الجيل الذي تخرج في مدرسة الحقوق مثلاً، وعندما كنا نقرأ هذه الأشعار، كان يحيى شديد الإحساس بها وبدقة، وشيئًا فشيئًا ظهرت عنده مقدرة على التنبه إلى جمال الأشياء الموجودة في هذه الأشعار، قديمها وحديثها، جاهليها وإسلاميها. وبدأ يحس بالأشياء إحساسًا آخر غير إحساسه بما كان يقرأ سابقًا، خاصة وأنه نشأ في بيت يشجع على القراءة، فوالدته كانت تحتفي بمقامات الحريري مثلاً، وكانت حافظة للمقامات وللقرآن، وكان أخوه كذلك أيضًا. أي أن يحيى كان عنده الأصول في القراءة، ولكنها أصول غير مرتبة.

وعندما دخل يحيى في جونا كانت قراءاتي أنا كلها في الشعر، ويحيى كان شديد الإحساس بجمال التركيب، وهذا ما ميّزه في ما بعد في تركيب كلامه. فلم يكن في البداية هكذا أبدًا. وبعد ذلك بدا يظهر اكتسابه، وليس تقليده لحسن التعبير الموجود في اللغة، أي كيف يركب الكلام، فيحيى حقي ليس لديه مادة لغوية كبيرة، ولكنه أحسن تركيب القليل الذي لديه، إنه ليس مقلدًا، وإنما ظهر له فجأة أسلوب متميز، ومع أن أسلوبه في البداية أيضًا، كان فيه نوع من التميز، ولكن هذه القراءات هي التي نفعته بعد ذلك.

أنا مختلف عنه

*سبق لحقي أن أخبرني عن إعجابه بديوان ذي الرمة تحديدًا باعتباره من أهم الدواوين التي قرأتموها في تلك الفترة؟

– هذا صحيح. فديوان ذي الرمة ديوان كبير، فكنا نقرؤه بدقة وفهم، ويحيى أحس بالصور الموجودة في شعره، وكان شديد الإحساس به، وأظن أن من أكبر المؤثرات عليه ما قرأه في هذا الديوان أكثر من سواه.

*لقد كتبت أنت مقالاً عن ذي الرمة ربما كان من أهم مقالاتك في ذلك الوقت؟

– نعم، وكان يحيى معجبًا به كثيرًا بالإضافة إلى مقال أسرار الحروف العربية وقد نشر في مجلة المقتطف.

دعيني أعد لأتحدث عن يحيى حقي.

*تفضل.

– ميزة يحيى أنه اكتسب القدرة على تركيب الكلام الذي يحسنه بطريقة عربية صحيحة، وأن اللغة ليست النحو وليست الصرف، إنما لابد أن تكتسب، قبل النحو والصرف، تذوق النحو والصرف، تذوق النحو والصرف عن طريق القراءة.

*ما مدى التشابه بين كتاباتك وكتابات حقي؟

– هذا سؤال غلط، لأن طبيعتي مختلفة عن طبيعة يحيى.

كنت قد سألت يحيى حقي نفسه السؤال ذاته فقال إننا «من مية واحدة».

– نعم، ولكن من نوعين مختلفين!

*وكيف كانت علاقاتك بالأدباء الآخرين؟

– أنا لا أدخل في بيتي الأدباء إلا قليلاً، ومن هذا القليل محمود حسن إسماعيل ويحيى حقي وعدد آخر محدود، أما الآخرون فقد كنت أقابلهم على «القهاوي» وغير ذلك من الأمكنة، أما بيتي فلا يدخله إلا نوع معين من الأدباء.

*أي نوع تعني؟

– «معرفش بقه.. مش لازم تعرفي»!!.. وأعود الآن لأتحدث عن يحيى حقي لأقول إنه ليس من أصول عربية، ولكنه اكتسب العربية اكتسابًا صحيحًا عن طريق النشأة في مصر خاصة وأنه من مواليد «الحلمية»، فليس له أصول عربية نستطيع أن نقول إنه يرجع إليها. ولكن صفاء نفسه وصفاء شعوره مكّنه من أن يمزجها بروح يحيى إلى أن خرج منه الأسلوب المعروف بأسلوب يحيى حقي. وبالطبع أيضًا هو نوع آخر فيما يتعلق بي أنا. فأنا عربي وشريف النسب وصعيدي شرقي.

  • وهل لاحظت أي أثر لأصول حقي غير العربية على كتاباته؟

– لا.. ولكن هناك «حاجات» خفية جدًا بصراحة، فمع حبه لمصر ولكنه ظل يشعر في داخله بشعور الأتراك القدماء. هو ينكر، ولكنني أعرف ذلك جيدًا.

*أعني هل أثر هذا الشعور الخفي الذي تتحدث عنه في كتاباته؟

– لا لم يؤثر، بل لعلي أستطيع القول إنه أثّر بشكل عكسي، فحتى ينفي هذا الإحساس عنه بالغ في جرعة حبه لمصر.

*قلت إن من فضائل يحيى حقي عدم الغضب، ولكن…

– نعم، أنا لا أتساهل مع أحد، والناس ينفرون مني لهذا السبب، ولكن الحقيقة أن يحيى احتملني، ففي شبابي كنت عنيفًا وشديدًا، ولساني حاد على أصدقائي الذين أحبهم، ولكن يحيى لم يغضب قط. أكبر فضيلة ليحيى أنه لم يغضب قط ولم يشكني إلى أحد قط.

*ما رأيك بترجمات يحيى حقي؟

– كان يحيى يترجم تحت تأثير الكتابة النحوية، ولكن الكتابة سليقة وليست نحوًا، ولقد كانت هناك أشياء صغيرة كنت أقولها له ولكنه تمكن منها بعد ذلك، كما أن ليحيى حقي بعض الآراء الفاسدة حتى الآن، منها أنه يتصور مثلاً أننا إذا قرأنا بيت الشعر وتوصلنا بأنفسنا إلى معرفة القافية دون أن نسمعها فإن البيت ضعيف، وهذا طبعًا كلام سخيف جدًا ولا قيمة له ولكنه يردد ذلك لغاية الآن.

*ربما لأن القافية أحيانًا هي حد إيقاعي وليس حدًا معنويًا؟

– يحيى حقي لأنه من أصول تركية ينسى أن للعربي قدرته في هذا، فهو ذكي ويريد منك الذكاء، أي أنك تصل إلى القافية قبل أن يصل إليها.

*هل نستطيع تحديد ما اكتسبه حقي منك أو من جلسات القراءة الشعرية؟

– لم يكتسب، ولكنه فعلاً كان مقتدرًا، يعني لا توفيق الحكيم ولا نجيب محفوظ ولا أحد من هؤلاء عنده ما عند يحيى حقي من تكوين، كما أنه لا أحد في الشعر عنده ما عند محمود حسن إسماعيل من تكوين شعري، ولكنه، أي محمود حسن إسماعيل، لم يبلغ النهاية، فشعره لا يدل على شاعريته وهو في شاعريته أشعر بمراحل.

ويحيى يقال هذا فيه أيضًا، فقد كان عنده من المقدرة ما يبلغ به أعلى من هذه المرتبة، فلا نجيب محفوظ يلحقه في ذلك ولا غيره. نجيب محفوظ رجل صنعة مثل أبي تمام، على الرغم من أن أبا تمام شيء آخر تمامًا.

*وماذا عن توفيق الحكيم؟

– توفيق الحكيم هذا الحكم عليه أسوأ بكثير، فهو لا يقدر أن يقف بجانب محفوظ ولا بجانب حقي.

وحتى أقول الحق أرجع لأقول إن نجيب محفوظ أيضًا لديه قدرة، ولكنه لم يستمر، فقد شغلته الصنعة عن اكتساب القوة واكتساب السليقة الصحيحة. لقد أدرك يحيى حقي هذا ولكن نجيب محفوظ وقف عند الحدود، فهو مقتدر ولكنه لم يعمل، تمامًا مثل محمود حسن إسماعيل الذي يملك شاعرية ضخمة ولكنه لم يصل إلى الغاية. نجيب محفوظ مقتدر ولكنه انتبه إلى الغرض الثاني، فهو يجيد الرواية وقد تفوق فيها. تفوق على توفيق الحكيم بمراحل، ولو أنه بتواضعه يقول عن الحكيم إنه أستاذه، ولكنه أستاذ الحكيم طبعًا.

*قلت إن يحيى حقي منذ البداية كان يعرض عليك كتاباته، فهل كنت تعرض عليه كتاباتك؟

– نعم، كنت أقرأ له أشعاري وهو يسمع.

*وهل كانت له عليها ملاحظات معينة؟

– لا، كان يسكت عني، وأنا أعرف أنه لم يكن ينتبه إلى قراءتي، أما أنا فكنت أقرأ ولا أستاء. وبالطبع فإن ذلك يتصل بفضائله الشخصية، فقد كان يتميز بالوفاء والطيبة وفعل الخير والانفعالات لأبسط الأشياء. ولذلك، فأنا لم أغضب منه على الرغم من أنه أساء إليّ إساءة بالغة بعد ذلك، لم أغضب منه لأنني أعرف أنه خاف طبعًا من عبدالناصر وقد مدح عبدالناصر.

*أنت تشير إلى فترة سجنك في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

– نعم، أيامها انقطع يحيى حقي عن زوجتي أم فهر ولم يسأل عنها وأنا في السجن، ولكنه كان يسأل عنها «من بره لبره». كان خائفًا ولكن نفسه صافية في الحالتين، في حالة الخوف وفي حالة الأمن.

*وهل كان لخوفه تأثير على مستوى كتاباته؟

– بالطبع فهو خواف، ومحمود حسن إسماعيل أيضًا كان كذلك، لقد خاف أصدقائي عندما سجنت وانقطعوا عني، ولكن إساءة حقي هذه لم تحز في نفسي «قلت لك إنه جبان وخلاص».

*وكيف برر انقطاعه عنك؟

– «ما يعرفش يبررها»، بماذا يبرر الصديق انقطاعه عن صديقه؟ إن الصديق يلقي بنفسه في النار من أجل صديقه. وعلى الرغم من ذلك أنا لم أتأثر بفعل إسماعيل ويحيى، لم أتأثر بسوء فعلهما، بل إن يحيى بالذات جزء مني وأنا أعرف أنني جزء منه، وكل ما في الأمر أنه انقطع عن أولادي وعن أم فهر في فترة دخولي السجن في الوقت الذي كان فيه الكويتيون يأتون إلى بيتي ويهتمون به وعلى رأسهم يعقوب الغنيم وصالح العثمان وعمر وعبدالعزيز التمار وأحمد الجاسر، كانوا يصرفون على بيتي ولذلك أنا أحب الكويتيين لأن لهم منة في عنقي لا تزول.

*كيف تم التعارف بينك وبين هؤلاء الكويتيين؟

– أرسلهم إليّ الأستاذ سيد صقر الذي كان أستاذًا للأدب العربي في المعهد الديني في الكويت. وعندما أتوا عندي أحببتهم وأدخلتهم في بيتي، وعندما يسافرون إلى الكويت في الإجازات كنت أفتقدهم بشدة.

ونشأت بيني وبينهم مودة وكانوا كلهم بمنزلة أولادي ومنهم عبدالله عيسى ومحمد الرومي وحمود وغيرهم كثير.

أكره الجنس الأوربي!

*لقد فاز يحيى حقي بجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب لعام 1989، وهي الجائزة نفسها التي حصلت أنت عليها عام 1984، فما رأيك بهذه الجائزة؟ وهل يمكن مقارنتها بجائزة نوبل للآداب التي حصل عليها نجيب محفوظ؟

– أولاً أنا لا أحب الجنس الأوربي عن بكرة أبيه، ولا أفضل الغرب المسيحي كله، وليس له ميل في نفسي، وأولاد فيصل (الملك فيصل) عملوا عملاً كبيرًا لأنهم أوجدوا جائزة الملك فيصل، فمالنا نحن ونوبل؟ إن جائزة نوبل لا تهمني ولا يصح أن ينتظرها أحد. عندما فاز يحيى حقي بجائزة الملك فيصل فرحت، لسبب وهو أن نجيب محفوظ عندما فاز بجائزة نوبل عملوا له ضجة، أما يحيى عندما فاز بجائزة الملك فيصل لم يعمل له أحد ضجة ولكنني أعتقد أن الله أكرم يحيى لأنه فاز بجائزة الملك فيصل ولم يأخذ جائزة نوبل، أقول ذلك على الرغم من أنني أعرف أن الأولى قيمتها المادية 98 ألف دولار في حين أن الثانية قيمتها مليون دولار، إن جائزة الملك فيصل لها منزلة عندي كما قلت في خطاب تسلمي لها قبل أربع سنوات، وأحب أن ينتمي إليها العالم العربي والإسلامي.

*وهل ترشح أحدًا لهذه الجائزة الآن؟

-لا.. لا.. لا أرشح أحدًا فأنا عضو في المجمع اللغوي ولكنني لا أرشح أحدًا، أما يحيى فهو يستحق ليس نوبل فقط بل أضعاف أضعاف جائزة نوبل.

 

مجلة العربي / الاول من نوفمبر 2007

http://www.alarabimag.com/arabi/common/showhilight.asp

عن Saadiah

شاهد أيضاً

د. سعاد الصباح: وُلدت وفي أعماقي امرأة لا تعرف الحذر أو الخوف

   سعدية مفرح/ 1فبراير2005: تذكرت وأنا أضع أسئلة لهذه المقابلة ما كنت قد كتبته عن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *