الرئيسية / مقالات سعدية مفرح / المقبرة.. عنواناً للألفة واليقين
لوحة لبول غورغوسيان
لوحة لبول غورغوسيان

المقبرة.. عنواناً للألفة واليقين

… وما زال الموت حقيقتي المنتظرة والمشتهاة التي أتشوّق لمواجهتها شخصيا، بعد أن عشت مواجهاتٍ غير مباشرة أخيرة معها، إثر رحيل بعض من أحبّ واحدا تلو الآخر. لقد كان تشوقي يتعزّز طرديا مع تلك المواجهات المتتالية، من دون أن أقدّر التجاوز، ولا حتى الشعور بالحزن، باعتباره الحل الجاهز في مواجهاتٍ حتميةٍ كهذه.
لقد أصبح الموت، على سبيل المثال، الحقيقة الأجمل في اكتمال الوجود البشري كله بالنسبة إليّ، ربما لكي يليق بأحبابي الراحلين، والذين لا أتصوّر مصيرا نهائيا لهم سوى الجمال اللانهائي! ومع هذا، ما زلت عاجزةً في الكتابة والشعر  عن مناوشة الموت، أو التعبير عنه، وأرى في فكرة الرثاء التقليدي مجرّد جبنٍ عن مواجهته، كما يليق به، أو حتى التعامل معه بالندّية التي تجعله صديقا، بدلا من أن يكون الخصم.
سُئلت إثر رحيل والدتي، رحمها الله، قبل سنوات قليلة، عما كتبته عنها وداعا ورثاءً، فقلت يومها إنني صرت أشعر أحيانا بأنني هي، وأحيانا يختلط عليّ الأمر، فأستدعيها في مساءاتي بشكل قصديّ، لأحكي لها بعض ما مرّ بي في أثناء النهار، كما كنت أفعل دائما. وربما تصوّرت أنها هي التي تستحضرني من غيابي، لأكون إلى جانبها بدلا من العدم، لفرط حضورها وجبروته المهيمن على حياتي كلها.
رحلت والدتي فعلا، لكنها تركت الكثير منها فيّ، وبعد رفقةٍ امتدت أكثر من أربعة عقود بشكل يومي حميم. صرت، أنا المختلفة عنها دائما، وربما في كل شيء، كما كنت أعتقد، أفكر كما كانت تفكّر، وأحب ما كانت تحب، وحتى عطر دهن الورد الذي كانت تفضّله على غيره من العطور، صرت أحبه وأستلهمه، وأكاد أشمّه في كل فضاءاتي، كلما استحضرتها أو استحضرتني.
هل تفكيري فيها بهذه الطريقة يغني عن قصيدتي لها؟..
هل أكتب لها أم عنها؟..
هل أكتب عني معها أم عني في غيابها؟..
هل أستذكرها؟.. أم أستحضرها؟.. أم أعيد خلقها في قصيدتي؟..
لا أدري…
أردّد أحيانا مفردات وجملا شعرية غير مكتملة كهذيان.. لكنها تغيب.
قبل رحيلها.. لم يكن الموت قريبا مني إلى هذا الحد، لكنها عندما ماتت في حضني، وتسرّبت روحها من جسدها وتصاعدت نحو السماء، بينما أسند رأسها إلى صدري، كانت نظرتها الأخيرة لي، وكلمتها الأخيرة لي، ورائحتها الأخيرة الممزوجة بدهن الورد في أنفي، فأي قصيدةٍ يمكن أن تكون إذاً؟
عندما عدت بعد دفنها في مقبرة الجهراء الموحشة، كأي مقبرةٍ، إلى غرفتي، شعرت بأنني تحرّرت من خوفي الذي تنامي في السنوات الأخيرة بشكل مرضيٍّ عليها. لكنني لحظتها دخلت نفقا يُشبه قبرا صغيرا.
وعندما ذهبت لزيارة قبرها لاحقا، تكثّف المعنى الشعري كله في شكل القبر الذي كان أمامي. شعرت بألفةٍ نادرةٍ مع المقبرة، وكانت رائحة الورد تلاحقني، وترسم خطوطا مستقيمةً بين القبور الكثيرة، لتدلّني على ما يخصّني من كومة تراب..
كنت ألمح قصيدتي معطّرة بدهن الورد، تنتظرني هناك، كي ألحق بها يوما ما.
والآن، بعد مضي سنوات، على أول مواجهاتي مع الموت وأخطرها. وبعد محاولاتٍ من التدريب الذاتي الاضطراري لاتقاء ما تخلفه تلك المواجهات من ندوبٍ خفيةٍ وظاهرةٍ في الروح، ما زالت المقبرة بانتظاري، لا باعتبارها جغرافيا للحزن والكآبة والأشباح والسكون واستدراج الدموع العصيّة، ولكن باعتبارها العنوان المؤكّد للألفة والمكان الذي يتسع لكل الإجابات على أسئلة الوجود.
رحم الله موتانا وشملنا، نحن الأحياء، برحمته حتى نستقر في العدم.. أخيرا.

 

(العربي الجديد/ 4 أكتوبر 2018)

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *