يا لها من خديعةٍ كنت قد استسلمت لها، وكثيرون من مجايليّ من الشعراء، تقول إن الأحداث العظيمة التي يمر بها الشاعر لا بد من أن تنتج قصيدة، أو ربما قصائد، عظيمة! انساق كثيرون وراء ما وفرته لهم تلك الخديعة النقدية النظرية من حضنٍ دافئ مكّنهم من الاستمرار تحت الضوء النقدي طويلا، وما إن انحسر ذلك الضوء، لسببٍ أو لآخر، حتى بان هزال ما أنتجوه من قصائد، سرعان ما انتحرت تحت وطأة الحقيقة.
لاحقاً.. تكشفت لنا حقائق الشعر والنقد والخدع الصغيرة التي صنعها بعض النقاد من أجل بعض الشعراء، فلم ينعموا بوهج نجوميتها إلا قليلا!
نستطيع، الآن، أن نراجع قصائد ومجموعات شعرية كثيرة أنتجها أنصاف موهوبين من شعراء الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، بعناوين كبيرة، غالبا ما تكون وطنية أو قومية، فحصدت كثيرا من التصفيق المدوّي، والقراءات النقدية اللامعة، ووضع شعراؤها تحت الضوء، وأمام الميكرفونات، وقدّموا في المهرجانات والفعاليات الثقافية، وحصدوا الجوائز والأوسمة والتكريمات، وصدحت بقصائدهم ذات العناوين الكبيرة حناجر المغنين والمغنيات.. ثم انتهى كل شيء، بعد انتهاء صلاحية تلك القضايا الكبرى. انسحب الوهج، وانطفأ الضوء، وخفتت الميكرفونات، واعتزل أصحاب الحناجر الصادحة.
لم يبق من الشعر السقيم سوى عناوينه، ولم يبق من الشعراء سوى ذكرياتهم، ولم يبق من الإبداع سوى الفراغ الكبير.
أردد تلك الأفكار المتعلقة بالشعر والنجومية والجماهيرية في سياق موضوعاتها الصغيرة والكبيرة، كلما أتيح لي أن أناقش بعض الشعراء الشباب المتحمّسين للشهرة والباحثين عن الضوء بين كلمات قصائدهم على إيقاع أوزانها.
عندما نكون مؤمنين بفكرة عظيمة، ونحاول الكتابة عنها، هذا لا يعني أن القصيدة ستكون عظيمةً، فأحيانا تكون القصيدة عظيمة، حتى وهي تتناول شأنا بسيطا، حتى لا أقول تافها. ومما يمر في حياتك من فتافيت الحياة اليومية، فتعبر عن موقف صغير بقصيدة عظيمة. ولكن العكس ليس صحيحا، فأحيانا، تعيش حدثا عظيما وهائلا في أثره عليك، وعلى من وما حولك، لكنك تجد نفسك عاجزا عن التعبير عنه بقصيدةٍ تليق بذلك الحجم والأثر، حتى وإن خيل إليك النقيض، بسبب ما اعتدته من بقايا تلك النظرية النقدية البائسة القديمة!
وبالتأكيد، يتمنى كل شاعر أن يكون كل بيتٍ من أبياته بيتا عظيما. ولكن ليس كل بيتٍ يكتبه بيتا عظيماً. وأنا، على سبيل المثال وحسب، أشكّ في أنني كتبت قصيدة عظيمة حتى الآن، حتى بمقاييسي النفسية الذاتية. بل تأتيني لحظاتٌ حقيقية تماما أشكّ فيها أني أصلا شاعرة. وكلما انتهيت من كتابة قصيدة، أيا كانت هذه القصيدة، جيدة أو متوسطة أو سوى ذلك، ودفعت بها إلى النشر، أو وضعتها في درجي، تخيلت أن موهبة الشعر عندي، إن كانت لدي هذه الموهبة، قد انتهت، فلا يسعني إلا أن أعيش لحظات استرجاعية حبلى بالتساؤلات؛ كيف كتبت تلك القصيدة؟ من أين بدأت؟ كيف انتهيت؟! فلا ألقى جوابا. حتى بت أشكّ، في كل مرة، أنتهي فيها من قصيدةٍ أنها ستكون قصيدتي الأخيرة، إلى أن أعيش لذة كتابة قصيدة أخرى، ممزوجة بألم خفي، فما زالت الكتابة، بالنسبة لي، عكس شعراء كثيرين، حقيقة أليمة، كالألم الناتج من جرحٍ في يدك تضطر أحيانا لأن تنكأه لتتحصل على لذة خفية من وراء الألم.
الشعر هو، بالنسبة لي، هو تلك اللحظة بالذات.
(العربي الجديد/ 20 يونيو 2019)