اللقاء الأول: فبراير 1992/ سعدية مفرح:
لم يكن شاعرا عابرا، ولا سياسيا عاديا، لكنه حفر في ذاكرة الامة اسمه كواحد من الذين دافعوا عن قضاياها وآمنوا بقدراتها، ولم يترك موقفا يستوجب على الفرسان ان ينزلوا الى ساحته الا وكان سباقا. لم يتخل عن مبدأ، أو يتنازل عن رؤية حق آمن بها، وكرس كل حياته في كل موقع دفاعا عنها، وتدعيما لها ولم يكن موقفه ابان الغزو العراقي البغيض للكويت بغريب على من حملوا مثل ما في قلبه من ايمان حقيقي بالعروبة الحقة لا الزائفة، وما قسمه للكويت الا واحد من دلائل عشقه لهذه البلاد التي استقبلت عشقه بما هو اهل له وسكبت عليه من نهر تقديرها ما يستحقه كشاعر صادق، لم يهادن، ولم يستبدل بكلمته ولم يقايض فكان حقا فارس الشعر النبيل، الذي بكته الاقلام، وودعته القلوب، واحتفظت به ذاكرة الاجيال.
و”الوطن” إذ تستعيد مع قارئها جوانب من عطاء هذا الرجل، إنما تعبر عن جانب من امتنانها لمواقفه وتقديرها لعطائه، وايمانها بان في الامة رجالاً كان في طليعتهم هم رهانها على مستقبل الايام.
هل يتصف الشعراء بالهدوء والشراسة لتكن الإجابة ما شاء الله لها ان تكون ولكننا سنقول اننا بصدد محاورة شاعر هادئ شرس يسمى د.غازي القصيبي؟
لتنهل الأسئلة على بياض الورق ولهفة المتذوقين ولتنقل الإجابات المغيمة على نقاء الوعي وحدة الاستقبال الحبيب.
غازي القصيبي.. هل لي أن أسميه “شاعر الأزمة”؟ لا أدري إن كان يحق للأزمات على ضيق أفقها المحدود أن يكون لها شاعر واسع مثل خليج يفيض وشاسع مثل صحارى تغيض!
ولكنه على أية حال شاعر الأزمة، للأزمات أمجادها أحيانا، وهو أحد كتاب هذه الأزمة، أعني أحد الذين امتشقوا أقلامهم وأشهروها في وجه الاحتلال، وكانت مقالاته التي زرعها وردا وبارودا في “عين العاصفة” من أكثر المقالات التي كتبت خلال المحنة اقترابا من عين الحقيقة المرة التي خشي البعض من التعريض بها أو خاف من التصريح بها.
غازي القصيبي الصوت الهادئ الشرس، أصر على ذلك، لا ينبغي له ان يظل مجرد ذكرى لقلم “كان” يقاتل معنا ايام محنتنا ولن يكون!
صحيح إنني مثل غير ممن بقوا داخل الكويت المحتلة طوال اشهر الاحتلال لم اقرأ له حرفا واحدا، ولكنني متأكدة أنني مثل غيري من الصامدين كنا بعضا من وقود اشعاره الحارقة وكان ما يحدث لنا داخل الكويت يصهل مثل خيول نافرة على أوراق غازي القصيبي.
لأجل صمود أهل الكويت البهي يطل علينا اليوم الشاعر الدكتور غازي القصيبي فارسا “حاليا” ونجما شعريا حتى وإن لم يعترف هو بذلك.
ولكنه الشعر سيد الإبداع وهو زمنه الألق سيد الأزمة، وشاعرنا هو غازي القصيبي طافحا بالشعر والعشق والحضور النبيل:
*غازي القصيبي بيننا بعد شهور من التحرير.. لا مفر إذن من أن يكون لأزمة احتلال العراق للكويت النصيب الأول بين أنصبة أسئلتنا المبعثرة وليكن السؤال على ضوء أزمة الخليج، (هل هو ضوء حقا؟).. هل يمكن الآن أن نتذكر ان نخبة عربية مثقفة قامت خلال الأزمة بدورها المنوط بها؟ أم أن هذه النخبة كانت مصابة بأزمة بدورها؟ وكيف نفسر لوعينا الحاضر سقوط بعض الرموز العربية المميزة في مستنقع ما حدث؟
– لا يجب أن نتوقع من النخب سواء أكانت نخبا سياسية أو تجارية أو ثقافية التحرر من الضغوط التي تنتجها البيئة السياسية والاقتصادية والثقافية المحيطة بها في كل الأحوال والظروف.
والمثقف الذي يستطيع ان يتغلب على هذه الضغوط، ويتخذ موقفا مبنيا على المبدأ هو ظاهرة نادرة، مثل هذه الظواهر بسبب ندرتها هي التي تدخل التاريخ وعبر أزمة الخليج انحازت معظم الرموز مع الضغوط التي ولدتها البيئة، باستثناءات بسيطة، وفي هذه الحالة، كما في غيرها، يجب أن يكون شعارنا “اعقل الناس أعذرهم للناس”.
لقد كفروا
*ولكنني لا أحتاج إلى مزيد من الجرأة عندما أقول بأن الكثيرين من دعاة الوحدة والحلم المشترك “كفروا” بدعوتهم تلك بعد أن فقدت بريقها العاطفي الاخاذ أثناء الأزمة وهم يختنقون برائحة النفط المحترق من آبارنا.. ترى هل كانوا محقين بذلك؟
– أنا لا أرى علاقة بين ما حدث في الكويت وبين شعورنا كعرب. إننا في نهاية المطاف، أمة تربط بينها روابط الدين والتاريخ والثقافة والحضارة. نحن لم نتعلم العروبة من صدام حسين حتى نفقدها بسبب تصرفات صدام حسين، ولا جاءتنا العروبة من ميشيل عفلق لتزول عنا بسبب تصرفات تلميذه غير النجيب.
نحن، مذ كنا، عربا مسلمين، وسنبقى عربا مسلمين، أما الانفعالات المتشنجة التي تطفو الآن فهي أمر طبيعي، ومن الأمر الطبيعي أن تزول بعد حين.
انظري.. انظري ماذا يحدث في أوروبا: من كان يصدق سنة 1945م أن ألمانيا وبريطانيا سوف تكونان جزءاً في وحدة أوروبية شاملة؟
علينا إذن أن ننظر إلى الأمور بمنظار تاريخي حتي لأن نبقى إلى الأبد سجناء اللحظة، وفي المعيار التاريخي “عربا كنا.. ونبقى عرباً”.
*هذا صحيح ولكن على أكثر من صعيد عبر المواطن الخليجي عن خيبة أمله بالمثقف العربي الذي أحس أنه خذله في هذه الأزمة، والذي اكتشف أنه ساهم بخديعته في رسم صورة لامعة لشخصية صدام حسين. قبل ذلك ترى كيف نستعيد ثقة هذا المواطن بالشخصية العربية المثقفة؟
– لا أرى مبررا لأن نخص المثقف العربي بنوع مختلف من العقاب أو الحساب. إذا انجرف المثقفة العربي وراء صدام حسين فقد كان يقتفي بدقة بدقة أثر التيارات السياسية التي سبقته إلى الانجراف.
لقد كانت هناك عوامل موضوعية عديدة ساهمت في إيصال صدام حسين إلى الموقع الذي مكنه من بناء آلته العسكرية الضاربة وكذلك موقعه السياسي، وعندما تؤخذ هذه العوالم كلها بعين الاعتبار سيتضح أن الاعتبارات السياسية كانت أهم بكثير من مواقف المثقفين العرب في بناء “وحش فرانكشتاين” التكريتي!
*الصدامية.. فردية أم جماعية؟
– هذا بالنسبة لصدام حسين كفرد، ولكنني اعتقد ان صدام حسين ممثل واحد من ممثلين عدة للحالة “الصدامية” ان جاز لنا وصفها بذلك التي تمسك بزمام الكثير من الامور على المستوى العربي.
*ألا يشجع ما حدث للحالة الصدامية كفرد على فضح الحالة الصدامية كحالة أو كجماعة؟
– عندما ننتهى من معالجة الحالة الفردية التي أمامنا ويختفي صدام حسين من الصورة تماما يمكننا ان ننتقل الى “الظاهرة العامة”، ولكني أؤمن بالأولويات. والأولوية الآن هي التعامل مع الرجل بذاته.
قطيعة إبستمولوجية
*هل توافقني على أن كل أطروحاتنا السابقة لم يكن لها تأثير في التنبؤ بما حدث لنا؟ هل سيشجعنا ذلك على قبول دعوة من يدعونا إلى قطيعة إبستمولوجية مع تاريخنا القريب؟
– أكثر حالات الهجوم المباغت وأكاد أقول كلها لم يتوقعها أحد لسبب أو لآخر. على سبيل المثال؛ من الذي توقع تحركات هتلر الخاطفة؟ من الذي توقع هجوم اليابان الصاعق على بيرل هاربر؟ من الذي توقع استخدام القنبلة الذرية في هيروشيما؟ من الذي توقع الهجوم الإسرائيلي سنة 1967؟ من الذي توقع الهجوم المصري السوري سنة 1973؟ لا أرى علاقة لا من قريب ولا من بعيد، بين عجزنا عن التوقع وبين قبول دعوة من يدعونا إلى قطيعة مع التاريخ.. بعيدة أو قريبة.
كتب الأزمة
*مارأيك بالكتب التي ظهرت أثناء وبعد أزمة الخليج؟ هل أكون محقة عندما أرى أنها نوع من الحمص الذي أراد البعض أن يطلع به قبل انتهاء المولد؟
– الكتب الجيدة في كل الحالات نادرة جدا. والأزمات دائما وأبدا هي مواسم الكتب والمطبوعات على طريقة مصائب قوم عن قوم فوائد، ومن هنا فلم أفاجأ بملاحظة أن معظم الكتب التي صدرت حتى الآن تافهة ومكررة ودعائية حتى العظم. ليس عندي من حيث المبدأ اعتراض على أهل “الحمص” مادام من الواضح في الأذهان أن المعروض “حمص” وليس جواهر ولآلئ.
حقيقة واحدة
*نعود الآن لغازي القصيبي الشاعر.. في أكثر من لقاء صحافي معك رفضت أن تكون مجرد شاعر وربما كان ذلك من مميزاتك كشاعر أو إداري أو أستاذ في الجامعة أو سفير، الآن كيف ترتب هذه الأولويات بالنسبة لك؟
– ليس هناك أولويات هناك حقيقة واحدة؛ أنا إنسان ومن هذه الحقيقة تتفرغ كل الأشياء الأخرى بما فيها المناصب الزائلة والقصائد الباقية، حتى حين، على أية حال.
البــــر والبــحر
*“بدو وبحارة ماالفرق بينهما؟ / والبر والبحر ينسابان من مُضَرِ”..
هذا البيت الشعري يقودنا إلى سؤال عادة ما يوجه إلى الشاعر غازي القصيبي، ورغم كلاسيكية السؤال بالنسبة لك أعود لأسألك عن مصادر الجدلية مابين البر والبحر في شعرك؟
– لا أدري عن الجدليات، ولكني أعرف أن نصف عقلي الباطن تسكنه الصحراء بكل مافيها من مخلوقات ضارية وأليفة بنخيلها ونوقها وبداوتها وشهامتها وانفعالها وغاراتها، أما النصف الآخر فيسكنه البحر بكل ما فيه من أسماك ملونة صغيرة “وجراجير” مرعبة، وبكل ما فيه من سكون وثورة من جمال وقبح. ألم نقرأ في ألف ليلة وليلة عن عبدالله البحري وعبدالله البري؟
كلية أم خاصة؟
*قصائدك التي قلتها خلال احتدام الأزمة كانت حادة حارقة، شائكة. هل تعتقد أن تلك النعوت التي أضفيتها على قصيدة الحرب أو الأزمة لديك هي نعوت خاصة بكلية المرحلة الشعرية التي تمر بها هذه الأيام؟ أم أنها خاصة بخصوصية حالة احتلال العراق للكويت؟
– يقول شيخ الاسلام ابن تيمية؛ “أن للحرب مقالا وأن للسلم مقالا”، وكل ما كتبته خلال الأزمة من شعر أو نثر كان من “مقال الحرب”. والأغبياء، وحدهم هم الذين يواجهون الصواريخ الفتاكة بألفاظ تدمى وجناتها حياء وخجلاً.. وعفة!
*بشكل عام نرى أن كل أو معظم القصائد التي ظهرت خلال الأزمة من قبل شعراء متباينين في الاتجاهات والمدارس الشعرية كانت قصائد صاخبة تنبعث منها روائح الحرب وصليل سيوف المعركة وأصوات انفجارات القنابل.. هل ترى قي الأفق ما يبشر بقصائد أكثر هدوءا أو فنية مما سمعنا وقرأنا؟
– أرجو ذلك. العمل الفني الجيد سواء أكان قصيدة أو رواية أو مسرحية أو لوحة أو قطعة موسيقية يحتاج إلى وقت ليختمر في الأعماق ويتكامل، ولن أستغرب على الإطلاق إذا وجدت أن أروع القصائد عن الأزمة لم تكتب بعد. سوف اكون أسعد الناس، صدقيني، إذا قرأت مستقبلا قصائد تفوق كل ما كتبته روعة وجمالا وخلودا.
الكلاسيكية والحداثة
*يمتاز شعرك بخصوصية الجمع بين الكلاسيكية في الشكل والحداثة في المضمون. الآن، بعد ظهور الكثير من التجارب الشعرية المغرقة في التحديث والتجريب، أما زلت عند موقفك القديم من الحداثة كقضية وكمبدأ؟
– موقفي منذ بدأت كتابة الشعر قبل أكثر من ثلث قرن وحتى الآن لم يتغير؛ التجديد دون تطرف، والوسطية بين من يقدسون تاريخنا الشعري وبين من يودون حرقه. كنت ولا أزال مقلدا مجددا، أو مجددا مقلدا.
أما ما ترينه من “موضات” فكثير منها سينتهي مع نهاية الفصل، شأنها شأن كل الموضات في الأزياء والسيارات!
خريطة الشعر
*كيف تنظر لخريطة الشعر العربية حاليا؟، وعلى نفس المستوى كيف تنظر لنفس الخريطة على مستوى الخليج؟
– هناك عدة قارات في هذه الخريطة؛ هناك قارة كبرى اسمها “قارة المحافظين” يسكن فيها معظم قراء الشعراء وأقلية من الشعراء، وهناك قارة أصغر يسكن فيها معظم الشعراء والنقاد وعدد قليل من القراء اسمها “قارة المجددين”، وهناك قارة، يصعب علي تحديد مساحتها لأني أسكن فيها، وهي قارة “أهل الوسط”، هذه الخريطة تنطبق على الخليج، كما تنطبق على الأمة العربية.. وبنفس تفاصيلها، ولا تنسي “قارة النبط!”.
الأزمة والمقالة
*نعرف أنك كاتب مقالة جيد قبل الأزمة، هل تعتقد أن الأزمة خلقت منك كاتب مقالة ممتازا أو نجما كما يعتقد البعض؟
– نجم؟! سامحك الله! لم تجعل مني الأزمة شيئا لم أكنه من قبل. بحسب علمي على أية حال، وفوق كل ذي علم عليم!
* بغض النظر عن مفهومك لمبدأ الالتزام؛ هل أنت شاعر ملتزم؟
– لا.
الأديب والسلطة
*ينظر البعض لأي أديب يرتبط بالسلطة نظرة شك ويبعده عن دائرة الارتباط بقضايا الشعب و”الناس اللي تحت”، بصفتك مدير جامعة سابق، وزير سابق، سفير حالي، وبنظرة إلى الخصوصية المترفة في لغة قصائدك، هل تعتقد أن الاعتقاد السابق صحيح؟
– في كل عمل توليته سابقا أو أتولاه الآن، كانت قضايا “الناس اللي تحت” بالنسبة لي أهم من قضايا “الناس اللي فوق”، وهم على أية حال لا يحتاجون إلى خدماتي. أما مدى توفيقي في ترجمة هذا الحرص إلى منجزات يستفيد منها هؤلاء الناس فعلمه عند الله، أولا، وعند الناس ثانيا. لماذا لا تسألينهم؟
أسباب النجومية
*الشاعر الدكتور غازي القصيبي هل تعتقد أن “النجومية” التي تتمتع بها الآن أتت من شاعريتك فقط؟ أم أن عوامل مساعدة أخرى ترتبط بمكانتك الاجتماعية والدبلوماسية هي التي ساعدت على ذلك؟
– يجب أولا أن أعترف بالنجومية كي أتمكن من تحليل عواملها ودوافعها. والنجومية في عالمنا العربي مقتصرة على نجوم السينما والفن وأبطال كرة القدم.. “وأشخاص آخرين من الأسلم.. عدم الاشارة اليهم!”، وأنا كما ترين لا أنتمي إلى النجوم هذه!
المد النقدي والإبداعي
*كيف تنظر للحركة النقدية لدينا؟ وهل ترى أن المد النقدي يسير متوازياً مع المد الإبداعي بشكل عادل؟
– تريدين مني أن أنقد النقاد؟ يقول شاعرنا القديم “وعداوة الشعراء بنس المقتفي”، أما عداوة النقاد فانتحار مؤكد!
الوحدة الخليجية
*اعرف أن للبحرين، كبلد وكوطن، خصوصية معينة لديك تتعدى كونها البلد التي تعمل سفيرا في عاصمتها، وللكويت خصوصيتها الجديدة لديك بعد أن كتبت ما كتبت طوال أشهر الأزمة من أجل عينيها، كما أنك أولا وأخيرا شاعر سعودي.. ترى، ومن هذه المنطلقات، كيف يمكن النظر إلى الوحدة الخليجية كحلم وكمشروع متداول هذه الأيام بكثرة؟
– باختصار، إن لم يتوحد الخليج فلن يبقى. كلما أسرعنا في فهم هذه الحقيقة واستيعابها كلما زادت إمكانيات بقائنا على المدى البعيد. مشكلتنا الرئيسية في الخليج هي أننا غير مستعجلين.
السيرة الذاتية
*ما جديدك على مستوى النشر؟ ومتى تستطيع إكمال سيرتك الذاتية التي وقفت عند حدود الأربعين عبر كتاب “سيرة شعرية”؟
– هناك هذا الشهر ثلاثة كتب جديدة؛ “عقد من الحجارة”، وهي مجموعة شعرية، و”الغزو الثقافي” وهي مجموعة من المقالات، و”أزمة الخليج.. محاولة للفهم” وهو من نوع “الحمص” الذي تحدثنا عنه في سؤال سابق. أما السيرة الشعرية فلم يحن الأوان بعد للإضافة إليها.
( الوطن/ فبراير 1992)