ابراهيم محمد نصير/
هل كبّرتُ إيذانا للصّلاة حين صفّر الـ … ! لا .. لا.. فأَكْبَرُ ظنّي أنّي لم أُكَبِّرْ . وإنّما كدتُ أُكبّر حين – فجأة – صفّر الهواء المحيط بأذني اليمنى . بدا كأنّه حفيف يَتَدَلْوَبُ ويَتَلَوْلَبُ في صفيره منطلق كالسّهم إلى مرماه . خُيّلَ إليَّ أنّ الصّوت الّذي حفّ أذني كان أشبه بصوت رصاصة مرّتْ على بُعد مليمترات فقط من صيوان أذني . كان هذا ما قد حث في ظهيرة أحد الأيّام حين دخلت مكتبي لأصلّي الظّهر ، فعمدتُ – كعادتي – إلى النّافذة ، فلم أفتحها ، وإنّما أزحتُ السّتارة عنها ؛ ذلك أنّي أعشق ضياء الشّمس ونورها وأراه نافذا إلى حجرة مكتبي – ولا سيّما في الصّباح – لتسقط منه حزمة ضوء مربّعة الشّكل على السّجّادة . وهكذا كنت في تلك الظّهيرة ، منتعشاً بِسنا النّهار ، فنشطتُ إلى الصّلاة ، فوقفتُ على السّجّادة ميمّماً القبلةَ ، فرفعتُ يديَّ لأكبّر ، فما كادتا تصلان إلى أُذنيّ حتّى روّعني ذلك الصّفير المُباغت الّذي دهمني فأرجف قلبي بِدَوِيِّه ، وأعقب ذلك الصّفير صوتٌ انفجاريّ مكتوم مخنوق نشأ من ارتطام الصّفير بجدار الحائط الّذي يواجهني ، فاتّسعتْ عينايَ مذهولا ممّا أرى فيه ؛ فلقد أحدث الصّفيرُ اللّعينُ فجوةً دكناءَ صغيرة في الجدار . فتشوّش ذهني ، وزاغ بصري .. أَأَنا في حلم أم في علم ! تُرى ما الّذي جرى قبل قليل ! لست أدري . فلم أدرك – لحظتَها – ما الّذي حدث ، ولم أستطع أن أتبيّن كنه هذا الصّفير وسرّ تلك الفجوة ، فجمدتُ في وِقفتي مشدوها مصعوقا ، فتجمّدتْ يدايَ في مكانهما معلّقتيْن وكأنّي بهما كمثل ذاك الّذي يقول للشرطيّ : ” إنّي أستسلم ” .
هكذا كنت حينها مبهوتاً بما جرى للتّوّ . وبعد هنيهة ، وعندما زايلتْني الرّهبة أنزلتُ يديَّ المعلّقتيْن بفزعي وارتياعي ، والتفتُّ ورائي ، فرأيت زجاج النّافذة سليما لا كسر فيه ، غير أنّي بصرت ثقبا – خرما – في وسطه ، بدا في شكل حوافّه وكأنّه نسيج عنكبوت بخيوطه الدّائريّة حول مركز هذا النّسيج . فأدركتُ فورا أنّ سبب هذا الثّقب لا يمكن أنْ يكون إلّا من رصاصة … رصاصة … نعم … رصاصة !! فالتفتُّ مرّة أخرى إلى جدار الحائط لأتبيّن حقيقة الثّقب الآخر ، الفجوة . وحين علمتُ سرّ ذينك الثّقبين ، خررتُ ساجدا لله حامدا شاكرا ؛ فلقد نجوتُ ، إي والله لقد نجوتُ من رصاصة قد تكون طائشة ضلّت غايتها ، أو قد أكون أنا غايتها . رحماك يا ربّ الكون ، من أين يأتي السّلام والأمان إنْ كانت دورنا وحجراتنا يتخلّلها الرّصاص الغادر في وضح النّهار !
ظلّت تلك الحادثة تهجس بالي وتبلبل فكري طَوال أيّام ، فأخذتُ احتياطاتي ، وبدأت أتحقّق متعقّباً خيوطها لأفكّ طلاسمها ، فنظرت عبر النّافذة إلى أفق مجاور ، وإلى بعيد هناك ، فرأيت أسطح ثلاثة منازل مكشوفة للعين للنّاظرة – ذلك أنّ مكتبي يقع في الطّبقة الثّانية من المنزل – وعلى يمينها صفّ من المباني العالية في أدوارها وطبقاتها . سألت نفسي : من أيّ منها خرجت الرّصاصة ؟ وهل كانت نافذتي مقصودة ! فذلك أنّي لمّا عاينتُ أثر الرّصاصة في وسط النّافذة تماما ، أوحى إليّ مكانُها أنّ الرّامي قد جعلها – نافذتي – علامته في مرمى بصره . وكنت قد عاينت الرّصاصة نفسها ، فلم تكن كبيرة الحجم حين انتزعتُها من الجدار ، غير أنّها كانت ستودي بي ، أو لكانت ألحقت بي ضررا لا أعلم مداه لو أنّ الرّصاصة اخترقتْ رأسي من وراء أذني .
تلك كانت حادثة من حوادث هذه الحياة ، ففي كلّ يوم تُبهرنا بجديدها القديم و قديمها الجديد على السّواء . ولست أدري لِمَ لَمْ أبلّغ الشّرطة – وقتذاك – عن الحادث المميت .. وقد يكون صمتي خيرا لي .. لست أدري . غير أنّي لا أزال حتّى يومي هذا أقف للصّلاة في المكان نفسه : ورائي نافذتي ، وأمامي حائطي الأبيض . والحمد لله أنّني لم أعِشْ زمنَ المجانيق ( جمع منجنيق ) وإلّا انقلبتْ حكايتي إلى حكاية من حكايات السّندباد وعلي بابا .