أنوار فاهد مخلد/
جلس على الأريكة مجاوراً لوالدته، كان قلبه مشغولاً بتلك القلوب القليلة من الإعجاب، بعد جهد مُنهك في عمل قصاصات الصور، والمقولات الهادفة، التي وضعها في أحد برامج التواصل الاجتماعي. تنهد بحزن، وعيناه تنظر للسجادة الحمراء المزركشة على الأرض، شارد الذهن.
نظرت إليه والدته بحيّره، وتساءلت بصمت: “لما كل تلك الهموم الجاثية على قلبه؟ ما الذي أقلقه وعكّر صفو مزاجه هكذا؟ فقبل ساعة كنا نجلس على مائدة الغداء، وابتسامته وحيويته ملأت أرجاء المكان بهجة”. وكعادة قلق الأمهات، تدنو إليه لتسأله بحينّية صوتها، الذي ما إن سمعه حتى خرج من غمامة الحزن إلى واقع الحياة.
“ما الأمر يا عُمر؟ أتشعر بضيق لبدء التعلم عن بُعد في الجامعة؟ أم أن هناك أمراً آخر يقلقك؟ أخبرني كي أطمئن، لعلك تجد ما يُعينك”. نظر إليها وابتسم ابتسامة خفيفة وعيناه غارقةً بالحزن، وقال: “أمي لا تقلقي، أموري في الجامعة طيبة، والدراسة عن بُعد ممتعة، ولا زلنا نتعلم شيئاً فشيئا”.
أخذت تنظر إليه لثواني، ثم داعبت بيديها وجهه تمازحه، لتسأل مجدداً، قائلة: “إذن ما الذي أحزن تلك العينين الجميلتين؟” ابتسم ابتسامة رضا، بددت ذلك الحزن، ليأخذ نفساً عميقاً، ويبدأ الحديث قائلاً: “حزين يا أمي لأنني بذلت جهداً بنية طيبة، وكنت أتطلع لأن يكون هذا الجهد محبباً للكثير، تنعكس فائدته بمشاركة الآخرين معي في البرنامج الذي تم عرض هذا الجهد فيه.”
ثم استكمل قائلاً: ” أمي رغم معرفتي بقيمة ما أشارك به، إلا أنني شعرت لوهله بأني وأفكاري حملٌ ثقيلٌ، رغم ما أطرحه من جديد الأفكار في مواضيع مفيدة للشباب وممتعة، لكن لا أجد مشاركة أو إعجاب لما أضع إلا القليل، وما زاد حيرتي، ازدياد الاعجاب والمشاركات لمن يضع صورة منقولة أو معروضة مسبقاً لا تحتوي موضوعاً هادفاً أو مقطعاً ساخراً ليس ذا قيمة نافعة!”
ابتسمت والدته إليه ابتسامة وسألته قائلة: “أخبرني يا بني صراحةً، هل أنت تضع هذه الأعمال الخيّرة النافعة كما تقول، لأن هدفك الشهرة على حسابها أم أنك تضعها للفائدة لعموم من يرى ويقرأ ما تضع؟ أخبرني بصدق يا عمر”، نظر إليها، وعيناه تملؤها الحزم، قائلاً: ” بكل صراحة، أحب أن أكون مشهوراً، لكن ليس ذلك هدفي. أنا أهدف لمنفعة الآخرين في العلم الذي أتعلمه من جديد العلوم في الكتب، وأنت تعلمين شغفي في نقل الخير.”
ازدادت ابتسامة والدته لطفاً بان على ملامح وجهها وهي تنظر إليه، تومئ إيماءةً موافقة، قائلة: “بكل تأكيد أعرفك حق المعرفة يا عُمر، ولذلك سألتك هذا السؤال تحديداً، حتى تجيب أنت على حزك فتزيح غمامته. يا بني، إن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فنحن لا نعلم بظروفهم وما في قلوبهم نحونا، وقد أمرنا أن نسعى ونكون من المحسنين، وإحساننا لأنفسنا أولاً بأن يكون في الالتفات فقط لرضا الله وحده، ومن ثم تقدير أولئك الكرماء علينا بجودهم في مشاركتهم لنا بكلماتهم الطيبة وقبولهم وانتفاعهم بما نقول ونشارك.”
ينظر عُمر لوالدته بكل اهتمام وإنصات، لتستكمل قائلة: “إن مكانة الإنسان يا بني لا تقاس على تلك القلوب الموضوعة في برامج التواصل الاجتماعي، بل هي في داخلنا وبما نصبو إليه فقط إرضاءً لله، فالله وحده من يضع القبول لنا في قلوب الناس، وما دمت خيراً نافعاً، سيأتي حولك دائماً أشباهك من الخيرين النافعين، وسيصل علمك وعملك حتماً لأكبر عدد ممكن من الناس ولو بعد حين، حتى من دون علمك، فالله سبحانه لا يضيع جهد عمل خالص لوجهه نافعاً للبشرية. فلا تغريك حشود الناس على بعض الناس، فنحن لا نعلم صدق نواياهم وصدق قبولهم لهم، لذلك دائماً اسأل الله أن يقبلك ويحبك، ليحبك أهل السماء والأرض، فتمشي مباركاً في طريق أهدافك مخلصاً في نشر الخير. امض يا بني في عملك ولا تحزن، فأنت على خير بإذن الله.”