عندما غادرت بوابة مدرسة النعيم المتوسطة للبنات في الجهراء قبل أيام، وجدتني أردد بيني وبين نفسي بيت قيس بن الملوح الشهير:
فَأَصبَحتُ مِن لَيلى الغَداةَ كَقابِضٍ / عَلى الماءِ، خانَتهُ فُروجُ الأَصابِعِ
وليلى التي تخصني في ذلك البيت هي سنوات العمر التي تصرمت وانسابت من بين فروج الزمن على الرغم من شدة قبضتي عليها. تماما كما فعل قيس بليلى الذي لم يحسب حساب فروج الأصابع ولا تصاريف الزمن ولا حتى قدرة ليلى نفسها على المقاومة والصمود.
كنت قد تلقيت دعوة من إدارة تلك المدرسة للمشاركة في مناسبة تربوية إبداعية، فلم أتردد لحظة في قبول الدعوة سعيدة شاكرة. إنها مدرستي التي قضيت فيها المرحلة المتوسطة من الدراسة كاملة، وكنت ضمن الدفعة الأولى التي درست فيها. وما زلت أتذكر أن ناظرة مدرسة أم معبد المتوسطة للبنات، وهي أول متوسطة للبنات في الجهراء، قد أصعدتنا نحن التلميذات المقرر نقلنا للمدرسة الجديدة الحافلات بعد الحصة الثالثة حيث أصرت، لسبب ما أن نكمل اليوم الدراسي في المدرسة التي لم تكن قد فتحت أبوابها بعد.
عندما دخلنا مدرستنا الجديدة كنا كمن يكتشف عالما آخر لأول مرة في حياته. فرحات بما أوتينا من خصوصية البداية في المكان الجديد. وقبل أن نعرف أمكنة فصولنا جمعتنا ناظرة المدرسة آنذاك أبلة شريفة الأمير رحمها الله، في الساحة الترابية الخلفية للمدرسة لتلقي علينا خطابا لم أعد أتذكر منه سوى طلبها في نهايته أن نحول تلك الساحة الترابية التي كانت مليئة ببقايا البناء من أخشاب وأكوام أسمنت وقطع حديد، إلى حديقة. ووسط دهشتنا التي سحبت جزءً من فرحنا بالمكان قالت أنها ستأتي لنا بمزارع، وأننا سنعمل تحت إشرافه يوميا، ومن خلال مناوبات معينة، لزراعة الحديقة.
كانت المساحة شاسعة جدا، وبشكل لم نكن نتخيل معه أننا نستطيع بقدراتنا الجسدية المتواضعة، وخبراتنا المستمدة من حصص العلوم وحسب، على تحويلها الى حديقة فعلا. لكننا فعلنا، وخلال شهور قليلة فازت مدرستنا الفتية بجائزة أفضل حديقة مدرسية في الكويت.
لا أتذكر كيف فعلناها، لكنني أتذكر أنني أحببتها بشكل فاق كل اهتماماتي يومها. وأزعم أنني عملت في زراعة نباتاتها وأشجارها أكثر مما عملته أي زميلة أخرى. كنت أعرف الأشجار بأسمائها التي أطلقتها عليها بنفسي، وأحصي عدد الأزهار المتفتحة بشكل يومي، وأعتبر الشتلات ونبتات الخضروات صديقاتي المقربات، حتى أنني عقدت صداقة خاصة مع نبتة اليقطين تحديدا، ربما تأثرا بقصة سندريلا ويقطينتها التي حولتها الساحرة الى عربة ملكية. وعندما ظهرت أول ثمرة يقطين في الحديقة صممت على أن تراها أبلة شريفة قبل الأخرين، فحضرت فعلا، وأعجبت بما رأت خاصة عندما حدثها المزارع عن جهودي المخلصة في الزراعة، فقررت أن تهديني هدية غير متوقعة كمكافأة لي على ما فعلته في الحديقة، وكانت الهدية أول كاميرا تصوير أمتلكها في حياتي.
ما زلت أحتفظ حتى هذه اللحظة بتلك الكاميرا، التي التقطت لي فيها أبلة شريفة أول صورة وأنا أقف وسط الحديقة.
ياااااااه.. ها هي الحديقة ما زالت حديقة، رغم تغير اسم المدرسة من الجهراء المتوسطة الى النعيم المتوسطة، ورغم أن عددا كبيرا من الناظرات والمعلمات والطالبات قد تعاقب على العمل والدراسة فيها. وها هو صندوق العمر قد انفتح أمامي بمجرد أن وقت في لحظة عابرة في نفس مكان الصورة الأولى في الحديقة لالتقاط صورة جديدة. اقترحت علي المعلمة الجميلة الشابة وهي تلتقطها لي أن أتحرك قليلا أكون في مكان أنسب للتصوير لكنني صممت على المكان نفسه، إن كان نفسه فعلا ولم تخني الذاكرة وسط زحف الاسمنت الذي قلص مساحة الحديقة كثيرا، ربما لأنني أردت أن أرصد شيئا من الماء المتسرب من بين فروج الأصابع.
لا أدري ماذا رصدت بالضبط، لكنني اكتشفت على الأقل أن ليلى لم تعد ليلى التي يعرفها ويحبها قيس، وأن تلك اليقطينة التي زرعتها في حديقة المدرسة قبل عقود من الزمن، لم تتحول في نهاية الأمر إلى عربة ذهبية كعربة سندريلا، ذلك أن الحياة لا تشبه قصص الأطفال!.
(القبس / 23 مارس 2014)
الله الله عليكِ أستاذة سعدية مبدعة كعادتك