الرئيسية / فواصل / كوبٌ من الماء البارد
لوحة لبول غورغوسيان
لوحة لبول غورغوسيان

كوبٌ من الماء البارد

أنوار فاهد مخلد(*)/ 

مع هدوء الأجواء بعد الظهر، أخذت الحبال بيديّها، يَجُرُّها الحنين لأيام المدرسة، وسباقِها مع رفيقاتها في لُعبة نط الحبل. كانت تقفز قفزاتٍ عالية، ترى خلالها أشعة الشمس المائلة في الأفق في حديقة المنزل الداخلية، تُشاهد السّماء الصّافية وبِضعِ غيماتٍ بيضاء كحلوى شعر البنات. منظرٌ أعاد بداخلها ذكرياتٍ افتقدتها كثيراً. الساحة الخلفية من مبنى المدرسة، وسباق الجري في حصة الرياضة التي تُحبها كثيراً.
لقد مَـرّ ما يُقارب شهر ونِصف وحياتُها في مساحةٍ واحدة لا تستطيع تجاوزها، حفاظاً على صحّتها! “لا تغادروا منازلكم إلا للضّرورة القصوى” جُملةً تردد صداها في التلفاز والمذياع وفي وسائل التواصل الاجتماعي، بل وحتى في إعلانات الألعاب الإلكترونية. أخذت نفساً عميقاً وهي تنظر لأشعة الشمس التي بدأت تبتعد مع ميلها أكثر، وقطرات من الماء تنزل برفق على جبين الفتاة ذات الإحدى عشر عاماً، اجتمعت في مسيرها مع تلك التي أخرجها الحنين من قلبها إلى مُقلتيها.
توجهت مع كوبٍ شفافٍ ذو شكل خاص، نحو برّاد الماء في زاوية الحديقة الصغيرة، كان الكوب لأحد الشخصيات الكارتونية التي أحضرتها من رحلتها قبل عامين. وحينما بدأت في الضغط على صُنبور الماء، دخل الماءُ البارد ببطئ ليتشكل على هيئة الكوب بشكلٍ جميل. ابتسمت ابتسامةً رغم دُموع عينيها التي أغرقتها حنيناً، تراقب بدقّة تفاصيلَ الماء المُتشكل، حتى سمعت صوتاً أخرجها من عالم الخيال.
لماذا تذرف الأميرات دموعاً وهُنّ يبتسمن؟ ضَحكت لذلك الصوت، لتلتف لأبيها الذي كان يرى تلك الدموع. جلس الأب على الكُرسيّ وطلب من ابنته الجلوس، يُردّد السؤال: لما كل تلك الدموع؟ أخبرته عن الحجر وإغلاق المدارس، واشتياقها للحياة الطبيعية ولصديقاتها، فابتسم ينظر للسّماء، ليُخبرها عن تجربة الحجر، لكن في أيام تختلف الأوضاع فيها عن الآن، إنها لأيام الحرب في بداية عام 1991، حرب تحرير الكويت من الغزو، كيف توقّف كُلُّ شيء، وأصبح الناسُ ما بين انتظار الفرج في شوق للحياة الطبيعة، وخوفٌ من الفقد بسبب الضربات الجوية بالصواريخ!
كانت تلك الأيام تختلف عن أيامنا هذه، فنحن رغم الوباء في نعيم كبير، نبقى بأمان في بيوتنا، ونرى العالم عبر هواتفنا، ولو كان هناك تباعدٌ اجتماعي، فلنا مع التكنولوجيا تقاربٌ تُكنولوجي! نظر إليها مُبتسماً، وهي تَسمعُ بإنصات، وقال: انظري للماء في هذا الكوب؟ كيف دخل بسلاسةٍ ليأخُذَ شَكلَ الكوب وبقيَ كما هو، رفعت الكوب لمدى عينها تنظر، واستكمل قائلاً: إن الإنسان يا بنتي، يعيش ما يكتبه الله له، وعليه أن يقتدي بالماء! يُحافظ على نَقائِه فلا يتأثر بالأحداث مهما كانت، وأينما تضعه ظروف الحياة، يتشكّل معها بِكُلّ مُرونة، يبقى جميلاً كجمال الماء الصّافي، يبعثُ بالتّفاؤل والحياة، كما يروي أجسامنا الماء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) قسم الإدارة والتخطيط التربوي
كلية التربية – جامعة الكويت
مدينة صباح السالم الجامعية

عن Saadiah

شاهد أيضاً

دائرة الضوء؛ خلف جدار اسمنتي

أحمد ناصر السميط/ تمثل المعرفة المدخل الرئيس لبناء الفكر والثقافة الجماهيرية والفردية، وهذا الأمر تتوارثه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *