يقظ وواع لكل من حوله رغم أنه “آخر الحالمين كان”
بقلم : محمد الأحمد
تفاجئك الشاعرة سعدية مفرح بلغة هادئة كالماء .. عميقة كاللهفة..
تقرأ شيئاً من ديوانها فيأخذك الوقت .. وتسرقك اللحظة المنتشية.. تتفق معها في كل شيء .. تهز رأسك موافقاً .. أو حزيناً معها..
يدهشك انتقاؤها للجملة الأنيقة .. فتحس أنك في حضرة الشعرز.
رجل وامرأة..؟ انكم تعمهون ..
أن ما بيننا لا يتسع لواو عطف ..
أنها تتعامل مع الشعر برشاقة ودلال.. وقد أوجدت لنفسها مساحة واسعة في حدائق الغناء فتجد نفسك مأخوذاً بتلك الشفافية المحببة في تعامل الشاعرة مع الكلمة والموقف الشعري مع الصورة المزدانة بالورد.. والمصابيح .. والرذاذ:
يا هذا النائم فوق رصيف القلب اهدأ في نومك
لن يمرق أحد …
تزعجك سوى سيارات الطرق الفرعية.
ويأتي تناقض المفردات محبباً مقبولاً فقد استطاعت الشاعرة توظيف ذلك التناقض من أجل خدمة اللوحة المتكاملة ورسم صورة نابضة دافئة .. تتخطى حدود المفردات لتخلق جواً إنسانياً أدبياً..
صاخب كالهدوء ..
ناحل كطريق ترابية في النشوء
كان دافئاً .. وضوءاً .. واحتراق
ونقرأ لها في مقطع آخر كانت صلواتي تبتل برطوبة كفري تمنحني دفئاً ثلجياً لا أدري أي صقيع عادوني كي يحرقني
وحده البحر .. صديقنا الذي يحتضن عشقنا وخوفنا .. وانكسارنا.
هناك تقف الشاعرة وحيدة تقرأ أمام البحر أحزانها وتبثه أسرار قلبها:
وحدي..
كنت أمام البحر … أمارس خوفي ..
وتتسع دائرة الكتابة عند الشاعرة …
فتبدو مزيجاً من مفردات القرآن الكريم
والتعابير الشعرية الدافئة:
تعبق وردة..
وفي واتد ذي زرع..
خارج خارطة الإقطاع …
تولد من رحم الدنيا نجمة
فإذا بالعالم أن تبشر ذو وجه مسود وهو كظيم ..
ولا تقف الشاعرة عند ها الحد بل نجدها تمزح الشعر الشعبي بالفصحى .. في لوحة متميزة نادرة يختلط فيها العامي بالفصيح في تناغم رائع …
“يا ما حلا الفنجال مع سيحة البال”
قافية تترى
“في مجلس ما فيه نفس ثقيلة”
تنداح بأذني
“هذا ولد عم وهذا ولد خال”
وهذا رفيق ما لقينا بديله..
إنها الصحراء .. الانتماء الأصيل إلى الروح والدم .. وقدسية المبادئ..
وبالرغم من هذه الحضارة التي يغشها.. وننغمس في صخبها كل يوم .. نجد حضور القبيلة مازال كبيراً في روح الشاعرة.. تلك القبيلة التي تسخر من لهاثنا وراء عربات الحضارة المجنونة .. الانتماء الأصيل الذي لم تستطع زخرفة الدنيا أن تمحوه من جدران قلبها الدافئ.
اخونها في كل ليلة ..
أعاشر الضياء
لكنني أضبطها في لحظة الخيانة
رأسية في قاعي يمثل بقايا قوة المساء…
تمد لي لسانها
تضحك من حضارتي المسكوبة .. المهانة ..
في الصفحة الأخيرة تودعك الشاعرة بتلويحة مفعمة بالمودة …. والنور..
تشعر بالراحلة .. والنشوة .. وأنت تقرأ آخر عنقود في ذلك البستان النضير: في فراشي
استكانت حافية
كان شعري يمارس رجولته وأي أنثى كانت القافية ..
“آخر الحالمين كان” .. عمل أدبي نجحت فيه الشاعرة سعيدة مفرح في خلق جو شاعري أخاذ.. كما نجحت في توظيف الصور.. والألفاظ .. والدلالات الشعرية لخدمة الهدف الأدبي السامي وللارتقاء بذوق القارئ .. إنها صرخة في عالم الشعر .. تثبت لنا جميعاً أن فرسان الكلمة مازالوا على صهوات الجياد..
القبس 13/2/1993