الرئيسية / مقالات سعدية مفرح / نظّارة وصورة من مخازن الطفولة
لوحة للفنانة لجين الأصيل
لوحة للفنانة لجين الأصيل

نظّارة وصورة من مخازن الطفولة

شيئان مستلان من مخازن الطفولة القديمة ما زالا يتحكّمان في مسيرة متاعبي الضاجة بين جدران الذات، والتي يسميها العلم الحديث عُقدا شخصية، يبرع النفسانيون الجدد في اجتزازها من ذواتنا الطفلة، كأطراف زائدة، من دون أن يقترحوا علينا بدائل صالحة لملء الفراغات بين الروح وذاتها، وبين الجسد وتحولاته على مدى الأيام المتوالية برتابة.
هل قلت شيئين فقط؟ الواقع أن المجازات اللغوية تتيح لنا دائما كثيرا من الحرية في استخدام المفردة وتصريفاتها ومشتقاتها، حتى حدود الفوضى، من دون أن نخشى غضب النحويين أو اللغويين، طالما أن هؤلاء لا يزالون منشغلين بدفع سيول الحداثة شعرا ونثرا وقصائد تبحث عن طقوسها في المنزلة بين المنزلتين.
أما الشيئان، لعلهما شيـئان فعلا، فهما الصورة الفوتوغرافية الشخصية والنظارة الطبية. وإذا كنت قد كرّست منهما “بطلتين” لاقتراحات شعرية ونثرية كثيرة في تجاربي الكتابية الكثيرة، فقد حاولت البحث في جذورهما البعيدة، عبر تلك التجارب، بطرق مباشرة أحيانا، وغير مباشرة أحيانا أخرى، كما يفعل النفسانيون في الأفلام العربية، ما رشح المحاولة لأن تتخلق بين يدي مادة أدبية، ما زلت أعمل على البحث عن هوية خاصة بها، تجعلها صالحة للبقاء في حيز الكتابة والنشر والذكريات الظريفة. وليس أمامي الآن، وأنا بصدد الحديث الجديد عنهما سوى ضم مناسبة الحديث إلى المحاولة الصغيرة، وهي، على أية حال، مناسبةٌ صالحةٌ ما دام الموضوع فيها صورة شخصية مهترئة الأطراف، مستلة من محفظة الطفولة، حيث الأبيض والأسود يمثلان سيادة ألوان الفوتوغراف على الوجوه والمشاهد كلها.
أما الصورة فكانت لصديقٍ، يبدو فيها وهو صغير جدا، يقف بجانب والديه وأخته التي تكبره بأعوام قليلة. كان الحدث عاديا جدا، ليس أكثر من صورةٍ قديمةٍ، يبدو الحديث على هامشها مناسبةً للحوار الطريف، وليس أقل من عبارتين مجاملتين للزمن القديم والتصوير القديم والأناقة القديمة وشغب الطفولة القديمة أيضا. فما الذي حدث بعد هذا كله وربما قبله؟ ركامات من العـقد الشخصية التي لم أكن أتصوّر أنها موجودة تحرّكت باتجاه الصورة الفوتوغرافية التي بسطها أمامي شارحا باهتمامٍ خجول تفاصيلها الدقيقة، قبل أن يشرح تفاصيل بقية صوره الشخصية العتيقة المبسوطة أمامنا، وسيول من الغيرة التي لا أدري كيف نبتت فجأة، واقترحت علي مزيدا من أسباب المشاريع المبتورة مع هذا الصديق النبيل بالذات، وكأنني بحاجة لمزيد منها بالفعل!
تذكّرت، على سبيل المثال، أنني لا أملك مثل هذه الصورة، ولا غيرها، وأن أول صورة في ألبوم ذكرياتي بالأبيض والأسود بائسة، لطفلة أكثر بؤسا بثيابٍ تشي بحاجةٍ تبدو أكثر نتوءا على ساحل الثروة المتاح للآخرين حولي. يبدو أن تلك الصورة الشخصية الصغيرة قد التقطت لي، من أجل الدخول إلى المدرسة في سن السادسة. ذكّرتني الصورة وأنا أتأملها باليوم الذي التقطت فيه. كان موغلا في زمنه القديم، لكنني تذكّرته، فبدا لي وكأنه فيلم وثائقي بالأبيض والأسود.
أذكر أن مصوّرا من الذين يقفون في شوارع المدينة البعيدة خلف صندوقٍ مغطّى بالقماش الأسود قد التقطها لي على هامشٍ من أصوات السيارات العابرة للطريق المجاور وأصوات الباعة التي أسمعها أول مرة في مدينة أزورها أول مرة! ثم لا شيء بعدها إلا مشاهد غامضة في هوامش صور الآخرين الجماعية طوال تلك الفترة التي تسمّى فترة الطفولة.
ماذا عن النظارة الطبية؟ حسنا.. هذه حكاية أخرى تحتاج محطة أخرى، إلى أن يحين وقت حكايتها، سأحترم تلك المشاهد المستلة من أضابـير الطفولة، وأنبشــها، وأقترح أن تفعلوا ذلك أنتم أيضا، كاقتراحات حلول لمشكلاتنا النفسية الكثيرة جدا.

 

(العربي الجديد/ 18 أبريل 2019)

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *