“قيل لأعرابي: كيف تبْتردُ بالبادية إذا انتصفَ النهار، وانتعلَ كلُّ شيء ظلَّه؟ فقال: وهل العيش إلا هناك؟ يركض أحدنا ميلاً فَيَرْفَضُّ عَرَقاً كالجمان، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه، وتُقبل عليه الرياح من كل جانب، فكأنه في إيوان كسرى”.
سحرني هذا الأعرابي زمنا، فكنت أحفظ مقولته، بعد أن قرأتها في كتابٍ ما من كتب التراث، فعلقتها مخطوطةً بخط جميل على جدار مكتبي. وكنت أنبهر من تلك القدرة الهائلة على الرضا التي لم يمتلكها ذلك الأعرابي وحسب، بل إنه تعامل معها وكأنها أحد معاني الحياة نفسها، وما زلت مسحورةً بتلك العبارة الموجزة تلخيصا لحياةٍ يراها صاحبها الصورة المكتملة، والصيغة الممكنة للبشر، وليس له وحده.
واضحٌ أن السائل شخصٌ لا يعرف قوانين الصحراء، ولا طقوسها الخاصة، ولا نواميسها المستمدة من خصوصيتها الجغرافية والمناخية. أو لعله لا يفقه كيف للصحراوي أن يحب صحراءه القاسية إلى درجة أنه يعيش فيها في ذلك الظرف الذي حدّده السؤال بطريقة ما: منتصف النهار صيفا، حيث لا مكان إلا الصحراء مترامية الأطراف، ولا أرض إلا الرمال الساخنة، والشمس تتوسط السماء في قمة تحدّيها البشر، واختبارها قدرتهم على الصمود في سياق وهجها الحارق. الصحراء.. حيث لا شيء إلا طبيعة الصحراوي الذاهبة إلى أقصى احتمالاتها البشرية في تلك الجغرافيا الخاصة.
يجيء السؤال، إذن، اختباراً لا استدلالاً، وتحدّياً لا استفهاماً، ولعله سخريةً لا إعجاباً. لكن الإجابة السريعة، والتي تبدو، أول وهلة، ساذجة صادرة عن أعرابي لا يعرف من الحياة إلا الصحراء، ولم ير أبعد من حدودها المترامية على مد بصره الحاد، تُباغتُ السائل بمنطق البساطة والعمق في اللحظة نفسها، فتحيل السؤالَ إجابةً، وتحيل الإجابة سؤالاً، ويكون التفسير واضحا لا لبس فيه بمفرداتٍ جميلة، وأدوات قليلة، وهدوء مشوب بالرضا والاكتمال.
وهل العيش إلا هناك؟.. يجيب الأعرابي على ذلك السؤال الاستدراجي نحو الرفض والقنوط بسؤال آخر يستدرج الأمل بكثيرٍ من الدعة والقناعة والبساطة.
يختصر سؤال السائل الحياة كلها بمشهدٍ فقير جدا في مفرداته الأولية، لكن هذا الأعرابي يحيله، بسؤال آخر، إلى لوحةٍ ساحرة، عندما يستنكره أولاً قبل أن يقدّم دفوعاته المنطقية بكثير من الإيمان والرضا…
لا عيش إلا في ذلك العمق الصحراوي البسيط. إنها الحياة نفسها إذن. لكن .. كيف أيها الأعرابي؟ بحيلة بسيطة، ومن له حيلة فليحتل، وللصحراوي الحيل كلها بقليل من الأدوات، عصاه وكسائه وخياله.. وليس هناك أكثر من الصحراوي قدرةً على تحفيز المخيلة بأقل هدايا الطبيعة شأنا.
لا يفعل الصحراوي شيئا ليواجه الصورة الأقسى للصحراء سوى أنه يركض ويركض ويركض، فلا شيء أمامه يمكن أن يحدّ من قواه الجسدية، وهي تعانق الفضاء الفسيح، إلى أن يقرّر هو أن يقف بعد أن يرى جسده، وقد صار منجما للؤلؤ، أو حبات الفضة اللامعة ببريقٍ ساحرٍ تحت ضوء النهار، على الرغم من أن الآخرين يعتقدون أنها قطرات عرق مزعجة، وعندما يشهد تلك الحبات البيضاء لامعةً بفضتها واستدارتها، وهي تتناثر من مسام الجسد المنهك، ينصب عصاه، ثم يتخفف من بعض ملابسه، ويلقي بها على عصاه، كي يصنع ظلا صغيرا يكفي، أو لعله لا يكفي، ليجلس فيه، فتقبل عليه الرياح من كل جانب، وهي رياحٌ ساخنةٌ لاهبة، كما يقول منطق المناخ الصحراوي. لكن الأعرابي المحب لصحرائه، العارف بدقائق حواسّها، لا يشعر بهذه السخونة اللاهبة، لأنها تلامس روحه قبل جسده، فتنعش الاثنين معا، ليبلغ في تلك اللحظة أقصى تخيلاته في العيش الرغيد، حيث إيوان كسرى الصورة المتخيلة للهناءة بالنسبة لأعرابيٍّ يعيش زمنا عربيا بالغ التقشف، مقارنة بالزمن الفارسي بالغ الترف.
أعرف أن الحكاية قديمة وبسيطة، لكنني أعرف أيضا أنها صالحة لكل زمن، خصوصا الأزمان الأكثر تعقيدا في التباساتها الجغرافية والمناخية والسياسية أيضا … ودعونا ننظر حولنا في جغرافيا منطقتنا الخليجية، لنشهد أحد الأمثلة على ما نقول.
سحرني هذا الأعرابي زمنا، فكنت أحفظ مقولته، بعد أن قرأتها في كتابٍ ما من كتب التراث، فعلقتها مخطوطةً بخط جميل على جدار مكتبي. وكنت أنبهر من تلك القدرة الهائلة على الرضا التي لم يمتلكها ذلك الأعرابي وحسب، بل إنه تعامل معها وكأنها أحد معاني الحياة نفسها، وما زلت مسحورةً بتلك العبارة الموجزة تلخيصا لحياةٍ يراها صاحبها الصورة المكتملة، والصيغة الممكنة للبشر، وليس له وحده.
واضحٌ أن السائل شخصٌ لا يعرف قوانين الصحراء، ولا طقوسها الخاصة، ولا نواميسها المستمدة من خصوصيتها الجغرافية والمناخية. أو لعله لا يفقه كيف للصحراوي أن يحب صحراءه القاسية إلى درجة أنه يعيش فيها في ذلك الظرف الذي حدّده السؤال بطريقة ما: منتصف النهار صيفا، حيث لا مكان إلا الصحراء مترامية الأطراف، ولا أرض إلا الرمال الساخنة، والشمس تتوسط السماء في قمة تحدّيها البشر، واختبارها قدرتهم على الصمود في سياق وهجها الحارق. الصحراء.. حيث لا شيء إلا طبيعة الصحراوي الذاهبة إلى أقصى احتمالاتها البشرية في تلك الجغرافيا الخاصة.
يجيء السؤال، إذن، اختباراً لا استدلالاً، وتحدّياً لا استفهاماً، ولعله سخريةً لا إعجاباً. لكن الإجابة السريعة، والتي تبدو، أول وهلة، ساذجة صادرة عن أعرابي لا يعرف من الحياة إلا الصحراء، ولم ير أبعد من حدودها المترامية على مد بصره الحاد، تُباغتُ السائل بمنطق البساطة والعمق في اللحظة نفسها، فتحيل السؤالَ إجابةً، وتحيل الإجابة سؤالاً، ويكون التفسير واضحا لا لبس فيه بمفرداتٍ جميلة، وأدوات قليلة، وهدوء مشوب بالرضا والاكتمال.
وهل العيش إلا هناك؟.. يجيب الأعرابي على ذلك السؤال الاستدراجي نحو الرفض والقنوط بسؤال آخر يستدرج الأمل بكثيرٍ من الدعة والقناعة والبساطة.
يختصر سؤال السائل الحياة كلها بمشهدٍ فقير جدا في مفرداته الأولية، لكن هذا الأعرابي يحيله، بسؤال آخر، إلى لوحةٍ ساحرة، عندما يستنكره أولاً قبل أن يقدّم دفوعاته المنطقية بكثير من الإيمان والرضا…
لا عيش إلا في ذلك العمق الصحراوي البسيط. إنها الحياة نفسها إذن. لكن .. كيف أيها الأعرابي؟ بحيلة بسيطة، ومن له حيلة فليحتل، وللصحراوي الحيل كلها بقليل من الأدوات، عصاه وكسائه وخياله.. وليس هناك أكثر من الصحراوي قدرةً على تحفيز المخيلة بأقل هدايا الطبيعة شأنا.
لا يفعل الصحراوي شيئا ليواجه الصورة الأقسى للصحراء سوى أنه يركض ويركض ويركض، فلا شيء أمامه يمكن أن يحدّ من قواه الجسدية، وهي تعانق الفضاء الفسيح، إلى أن يقرّر هو أن يقف بعد أن يرى جسده، وقد صار منجما للؤلؤ، أو حبات الفضة اللامعة ببريقٍ ساحرٍ تحت ضوء النهار، على الرغم من أن الآخرين يعتقدون أنها قطرات عرق مزعجة، وعندما يشهد تلك الحبات البيضاء لامعةً بفضتها واستدارتها، وهي تتناثر من مسام الجسد المنهك، ينصب عصاه، ثم يتخفف من بعض ملابسه، ويلقي بها على عصاه، كي يصنع ظلا صغيرا يكفي، أو لعله لا يكفي، ليجلس فيه، فتقبل عليه الرياح من كل جانب، وهي رياحٌ ساخنةٌ لاهبة، كما يقول منطق المناخ الصحراوي. لكن الأعرابي المحب لصحرائه، العارف بدقائق حواسّها، لا يشعر بهذه السخونة اللاهبة، لأنها تلامس روحه قبل جسده، فتنعش الاثنين معا، ليبلغ في تلك اللحظة أقصى تخيلاته في العيش الرغيد، حيث إيوان كسرى الصورة المتخيلة للهناءة بالنسبة لأعرابيٍّ يعيش زمنا عربيا بالغ التقشف، مقارنة بالزمن الفارسي بالغ الترف.
أعرف أن الحكاية قديمة وبسيطة، لكنني أعرف أيضا أنها صالحة لكل زمن، خصوصا الأزمان الأكثر تعقيدا في التباساتها الجغرافية والمناخية والسياسية أيضا … ودعونا ننظر حولنا في جغرافيا منطقتنا الخليجية، لنشهد أحد الأمثلة على ما نقول.
(العربي الجديد/ 4 أبريل 2019)