الكتابة لا تفنى ولا تخلق من العدم، ليس لأنها خاضعة لذلك القانون الفيزيائي الوجودي الشهي، ولكن لأنها ضد العدم وضد الفناء، وهي في ذلك الامتحان الرهيب ضد التاريخ أيضاً. فلا بداية لها ولا نهاية، وعلى الرغم من أنها قبل البدايات وبعد النهايات إلا أنها قادرة على صناعتهما أيضاً. ربما لهذا كله من الصعب على أي كاتب أن يضع يده بدقة على بدايته مع الكتابة!
سألتني صبية قبل أيام عن يومياتي، وعما إذا كان من المهم للكاتب أو الشاعر أن يدون يومياته أو ذكرياته وما فائدة ذلك؟
فكرت لحظتها إن كنت سأضع يدي أخيراً على تلك البدايات الغائمة في الذاكرة وأنا أحاول كتابة الإجابة. لكن محاولتي أخذتني في طريق آخر، وما أكثر الطرق في غابة الكتابة التي تبدو حتى لمن يعيش فيها وكأنها متاهة حقيقية!
سؤال الصبية جاء في سياق لقاء حول القراءة والكتابة من خلال التجربة الشخصية، ورغم أنني مؤمنة أو تجارب الكتابة هي تجارب فردية جداً ولا يمكن مهما حاولنا أن نعممها على الآخرين بحجة توزيع الخبرات. خبرات الكتابة غير قابلة للتوزيع بعذا الشكل الساذج ذي القوالب الجاهزة، لكن يمكننا على الأقل الحديث عنها من باب الإيحاء بتنوع تلك التجارب تنوعاً يكاد لا يمكن الإحاطة به، وهذا سر من آسرار الكتابة، بل والإبداع عموماً.
أعادني سؤال الصبية النابهة إلى يومياتي التي كدت أنساها تحت غبار الزمن المتراكم على مدى عقود، لكن أطياف من الماضي ما زالت حاضرة لحسن الحظ كي تسعفني بإجابتي؛ أيام المراهقة كنت أمتلك كراسة أسجل فيها يومياتي كل مساء. كنت لا أستطيع النوم قبل الانتهاء من تسجيل ما مر بي من أحداث وشخصيات خلال النهار وأحياناً أرسم بعض تلك الأحداث والشخصيات على هامش الورقة، كانت تلك الكراسة هي ملجئي وملاذي، وحافظة أسراري، والشاهدة الحاضرة الأمينة على أحلامي وطموحاتي وأمنياتي، وحاضنة مواهبي الأولى في الكتابة والرسم. وخلال سنوات قليلة تجمعت لدي كراسات كثيرة كنت أخبئها بعيداً عن أعين العائلة كأنها سر مقدس حتى أصبحت عبئاً أشعر بثقله كلما عنّ لي أن أعيد قراءة بعضها. لكنني في فترة ما شعرت بالنزق تجاهها، ولم أعد أسجل شيئاً، بل إنني عمدت على ما توافر لدي منها فتخلصت منها.. والآن لست متأكدة إن كنت نادمة على ذلك أم لا.
أحياناً أتذكرها وأتحسر على ما كنت أسجله فيها، وأقول لو أنها ما زالت معي حتى الآن لساعدتني على الأقل على معرفة تحولاتي المعرفية والفكرية والوجدانية أيضاً، ولسندت ذاكرتي في أوان تعبها وإرهاقها، خاصة أنني بدأت أنسى الكثير مما مر بي وكنت أظنني لن أنساه! لكنني أحياناً أخرى أقول لنفسي حسناً فعلت، لا أريد أن أبقى أسيرة أحداث مضت بها من الألم والحزن أكثر مما بها من الراحة والفرح! وأن ذاكرتي الانتقائية تعمل بكفاءة وتشذب لحظوياً كل ما يمر بها فلا يبقى سوى ما ينبغي أن يبقى وحسب!
(اليمامة /1 سبتمبر 2016)